التحيَّة والسلام
د. نبيل طعمة
دوليّ قطريّ أسرويّ شخصيّ، ماذا يعني لنا حلوله، ماهيته فلسفته؟ أسأل جميعنا القادم، من تنوعنا وتعددنا، واختلاف ألواننا وأدياننا، ومذاهبنا وطوائفنا، من معتقداتنا الثقافية والأدباء والعلماء، والمفكرين العظماء والبسطاء، من المتمترسين في الحصون والقصور والقلاع، السّاسة والسّادة، عن هذه الكذبة الكبرى التي تستعمر العقل البشري، أسأل الرأسمالية والاشتراكية والليبرالية، أسأل الديمقراطيات والحريّات والقوانين، أسأل الديكتاتوريات الراسخة في عقولنا، ومن وجودنا الظاهر على وجه كوكبنا الحيّ، أسأل الأمم المكتملة، والأمم المنفصلة عن بعضها، أسأل المتخلفة والنامية والزاحفة نحو الأمام أو الخلف، بعد أن كانت متَّحدةً بفضل عوامل محددة، كالدين والجغرافيا واللغة المتحولة إلى عوالم، فلا الدين يوحد، ولا الجغرافيا، ولا اللغة، حتى التاريخ يفرق، فلكلٍّ تاريخه مستنده الماضي، أو صناعته، خاصيته التي قام عليها، وكذلك الجغرافيا، متصلةً كانت أم مجزأةً، تحدّها أنهار أو محيطات أو بحار، أو حتى سهول أو جبال، والسؤال الأهم بين كل ذلك: كيف نصل إلى السّلام، ومغزى عنواننا الذي أسأل، بل تسأل عنه الإنسانية جمعاء، عن الفكرة أو المعتقد، الذي يستطيع إيصالنا إليه؟
السلام Peace، يجسد المثل الأعلى للحرية السياسية، التي من المفترض، أن تنعكس إيجاباً على مجتمعاتها، وبالتالي في جميع الأمم، ولذلك تجدني أفرّق بينها، وبين السلام التحيّة المفردة الاجتماعية الإنسانية المحضة، حيث تشكل لنا جواز المرور من بين بعضنا، باعتبارها تحقق الأمان، لما يعرف في الإنسان، نريدها ضمن الحياة المعيشة، لا تلك الساكنة ما وراء البرزخ، والتي ينتظرها الكثير بعد رحيلهم، وتحيتهم فيها سلام، تلك الكلمة العالمية الأزلية المتشابهة في جميع لغات العالم، سلام شالوم، salute بالإنكليزي، saludo بالإسباني، salut بالفرنسي، салют بالروسي، هذه الكلمة التي تهيمن على العقل البشري الاجتماعي، وما يحتويه من أفكار، وجميعها يسعى إلى التملك، حيث يقودنا إلى الألم والصراع والحرب والمرض، وحتى الخرف أو الزهايمر، وكلما عرف الإنسان قيمة الملكية، تؤلمه أكثر الخسارة أو استمرار الربح، تدفعه للقتال من أجل ألا يتوقف إليها، من دون أن يعلم أن بعض الأشياء الساكنة في جوهره، لا يستطيع ومهما عمل على تغييرها، لا تتغير، كي تبقى دالةً عليه، وإلا فلمَ نتحدث عن النزوات والثروات والحبِّ والكراهية، عن المجازفة والمغامرة والفوضى، والسعي للرقابة، من يعتقد أن الإنسان قادرٌ على الوصول إلى السلام الطبيعي، والحياة قامت على نظرية التضاد من أجل الوجود وإثباته، عن أيِّ سلام نتحدث، إذا كان المرء ذاته وبمفرده، يسعى إليه، ولا يجده؟ فكيف بنا نطرح عنواننا الهائل، الذي لا حدود له، والذي أيضاً يتشابه مع الطمأنينة؟ من منَّا آمنٌ ومطمئن؟ من يؤمن أن غده معلومٌ، وجميعه مجهول، لذلك تجده يعمل ويخطط وينجز، لكنه مستسلمٌ إليه، وخوفه هائل منه، يتمسك بلغة المقدس، فيقول: الله أعلم، والعلم لله، وسلام هي حتى مطلع الفجر، هل أرادها الإله، أن يكون في هذه الليلة فقط؟ أم إنه قصد النوم الذي نستسلم له، فلا ندري عن الذي يحصل معنا إلا من خلال الأحلام، جميلةً كانت أم على شكل كوابيس.
سعى الإنسان عبر حقبه المتصلة، والتي أقصد منها، أنه لم ينقطع عنها عبر تاريخه الموغل في القدم، والذي عجز العقل عن تقدير بدايته، فاخترع له بداية، وتصوّرها عبر إحداثيات غير مقنعة، لكنه في النهاية صدقها، وقال: إنها بدأت من مليارات السنين، واقتنع أن الشكل الأول والأخير للسلام هو الآلهة ما قبل الرسالات، وحدها بين اختلافه لتكون يهوه، الرب، الله، من باب أنه لم يقدر، وعبر كامل حقبه الزمنية من إنجاز عملية سلام حقيقية واحدة، ونجاحاته فيها، ما هي إلا عملية تخدير مؤقت، وخداع مبرمج، يستعد أثناءها، للقيام بحروب، تحقق الانهزامات والدمار والخراب، مظهراً حتى اللحظة عدم إدراكه لمفهوم بناء السلام، الذي يجب أن يتمَّ في داخل الإنسان أولاً وأخيراً، وكيف به يفعل ذلك، وهو الممتلئ بالشهوة الحاملة للغة التملك، التي تنجب الحسد والغيرة وأفكار التسلط والاعتداء والخوف من المجهول، ما يمنحنا فرصة التأكد من أن انعدام الإيمان بإنسانية الإنسان، وبأنه رسالةٌ خالدةٌ، أهدافها إعمار الحياة بالتعاون مع أخيه الإنسان، فماذا يعني لجميعنا هذا الظلام الشديد المسيطر على جميعنا؟ وكيف نتطلع من خلاله إلى النور، ومهما كان صغيراً أم كبيراً؟ ألا يعني لنا أنه الضوء أو بصيصه الذي ينتظرنا في آخر النفق، حيث يدلنا أنّ النور سلام، والسلام ينتظرنا دائماً، كي نصل إليه بعد الآلام والأمراض، والأزمات والحروب والنكبات، والأحزان والكوارث، كلّ ذلك من أجله، يدعونا لخوض المعارك جميعها، ينتظرنا في النهايات، من يصله فهو مؤمنٌ بوجوده، ومن يفتقدْ حضوره ينتهِ على سبله.
الخطيئة تتعارض مع السلام، والصراع الإنساني من أجل السلام، ما هو إلا وهم، غزا العقول، يمضي الإنسان عمره بحثاً عنه من باب قلقه الهائل على مستقبله، لا يعرف السكينة، يشتغل، يجمع، يراكم، وفي النتيجة يعود، إما لينفق كلَّ شيء من أجل استعادة عمره وصحته، وإما أنه يترك كلّ شيء، ويغادر من دون أن يدري ماذا فعل، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.
السّلام السّياسي يصنع الحروب، وهو دائماً على تضاد مع التحية والسلام الاجتماعي، إلا أنّ الطبيعة البشرية، قامت على الصراع من أجل أن تصل إلى السلام، دائماً نتأمله فنجده ساكناً في الأرياف، بين الهضاب والجبال، لكنَّ إنسان الحداثة، لا يستطيع التعايش معه، يهرب منه إلى المدن، حيث التكاثف والاحتكاك، يبحث عنه فيما بينه، ضمن رحلة الحياة التي لا تنتهي.