الشهادة والشهيد في الفن التشكيلي السوري…تتميّز الحركة التشكيليّة الحديثة برفدها عشرات الأعمال عن حوادث تاريخيّة سابقة
عامر فؤاد عامر
تحمل الألوان في نسيجها حالةً رمزيّةً؛ استطاع الفنان التشكيلي الانسجام معها بطريقةٍ لاواعية، فتشكلت ندرة وخصوصيّة، في طريقة التعبير، التي تحمل في وجهها الأوّل، علاقة الفنان الخاصّة بينها وبين اللون ووسيلته في التعبير، والوجه الآخر في العلاقة بين المُنتَج والمُتلقي أو عين المشاهد والمراقب للوحة الفنان وألوانه. لذلك تحتاج الكلمة طريقها في شرح وتوضيح ما يمكن توضيحه، بالاشتراك مع الطابع والإيحاء الذي يمكن للشخص المراقب الإحساس به واستنتاجه. لكن بنظرة بانوراميّة لمفهوم الشهادة، والشهيد، عبر الفنّ التشكيلي المرتبط بالحركة التشكيليّة السوريّة تحديداً، سنجد أن الرمزيّة في الشهادة لم تحمل الطابع العميق جداً، والذي يحتاج للمزيد من الشرح، إذ يبدو أن صبغة اللون تكاد تكون واحدة في معظمها، فقد انحصرت غالباً في اللونين الأحمر والأسود، وكذلك بدت الأشكال، والمجسّمات، والرموز قريبة جداً من ذهن المتلقي، فمجرد النظر للوحة التشكيليّة السوريّة، يمكن الوثوق تماماً من أن الموضوع الذي يعبّر عنه الفنان؛ يتمحور حول الشهادة والشهيد.
ارتباط الحدث التاريخي بالحركة الفنيّة
ومن يلاحظ ويراقب الأحداث التاريخيّة، وتأثر الفنّ التشكيلي بها، فسيجد أنّه دائماً هناك فورة مهمّة بعد كلّ حدث تاريخي، أو منعطف حاسم، يواجه الهمّ الجماعي بالعموم، كذكرى الثورة السوريّة الكبرى (عام 1925)، وعيد الجلاء (17 نيسان 1946)، وعيد الشهداء (6 أيار 1916) ونكسة حزيران (5 حزيران 1967) وحرب تشرين التحريريّة (6 تشرين الأول 1973)، وحديثاً انتصارات المقاومة في الجنوب اللبناني، ومواجهة العدو الصهيوني، وحاليّاً الحرب على سورية، فبعد هذه الأحداث، أو أثناء البعض منها كانت اللوحة التشكيليّة السوريّة، تأخذ بالتكون في جزءٍ من أبعادها، فهذه الأحداث التاريخيّة هي المواد الخصبة، والغنيّة، للفنان التشكيلي، الذي يحمل همّ الوطن، ورغبة النضال، والتحرر من القيود، فهناك إدراك كبير نلاحظه في العموم، وعبر كلّ الأعمال، بأن التشكيلي مدركٌ أكثر من غيره، لأهمية أن يبذل الإنسان دمه رخيصاً، مقابل الحفاظ على طهر الوطن، وجماله، والمحافظة على قيمه، فهذا النبل في الدفاع عن الوطن، يحتاج تقديساً، ليس أجمل من أن يصطبغ بألوانٍ خاصّةٍ، يختارها الفنان التشكيلي على لوحةٍ تصف زمناً، ومرحلة، حملت معاناةٍ جماعيّة، يمكن وضع كلمة الشهادة عنواناً كبيراً لها، ودليلنا البسيط في ذلك، أن ساحات الوطن لا تكاد تخلو من تماثيل ونصب تذكاريّة، حملت كلّ ما وصفناه، وأكثر.
التوثيق من خلال الفنّ التشكيلي
ويعدّ الفنّ التشكيلي، إحدى وسائل التوثيق التي تحمل بعداً كثيفاً يجسّد مرحلةً، أو واقعةً، أو فترةً زمنيّة طالت فيها معاناة الإنسان، قد تمتد لسنوات طويلة، وليست لأيام، أو شهور معدودة، وهذا ما يمكن ملاحظته، في لوحاتٍ كثيرةٍ، قدّمتها حركة الفنّ التشكيلي في سورية، فعلى مدى سنوات الأزمة يمكن إدراك مدى تأثر الفنان التشكيلي السوري عبر أعماله ولوحاته، التي عكست واقعاً أليماً، فكانت في معظمها تحمل ألواناً واضحةً تدلّ على الهمّ والتعب، ورفض القتل المجاني، ورفض الحصار الخارجي والحرب الهمجيّة التي شاركت فيها دول العالم ضدّ سوريّة، ورغبة الغرب في محو الهويّة التاريخيّة، التي يتمتع بها السوري. في حين أن القليل منها حمل ألواناً ذات بريق، وفرح، إلا في حالة الأمل، والرغبة في نسف الذكرى الماضية، تعلّقاً بمستقبلٍ أجملٍ، وأفضل، يليق بما يستحقّه من أمان، وحريّة، وعدالة، ومساواة، بعيداً عن لغة الحرب السوداء، وتخريبها للحياة، وكسر جمال الأيام، وتحطيم أمل الأجيال القادمة، التي يُعتمد عليها في البناء المستقبلي، والاعتزاز بهويّة الحضارة، التي ورثها السوري عن أجداده الحضارييّن، الذين سبقوه إلى هذه الأرض المقدّسة «سورية»، وهذا الطابع والواقع هو ما عكسته عشرات المعارض الفرديّة والجماعيّة التي أقيّمت في الفترات الأخيرة، إذ يكاد يخلو أي منها من هذه المفردات، فقد حملت همّ المواطن، الشاهد، والرغبة في الانتقال، لمشارف مستقبلٍ، أنصع، وغدٍ أفضل.
غنى الحركة الفنيّة السوريّة
يمكن ملاحظة قلّة اللوحات الفنيّة التشكيليّة، التي تحدّثت، ووثّقت، في موضوع الشهيد، والشهادة، ما قبل استقلال سورية، وجلاء المستعمر الفرنسي عنها، وما بعد هذا الحدث، وهذا الأمر طبيعي، كون البلاد أخذت حالةً من الاستقرار والبناء السليم بعيداً عن القلاقل، وعدم الاستقرار، فالفنّ بقدر ما هو حالة فعّالة في الدفاع عن الحق المغتصب، يحمل من ارتباط وملاصقة للاستقرار السياسي للبلد الكائن فيه، لكن ما يميّز الحركة التشكيليّة الحديثة، أن هناك رصيداً بعشرات الأعمال التي أغنت المرحلة السابقة، التي لم تُخلق فيها حركة فنيّة عاصرت الأحداث السابقة، وذلك نتيجةً لعدم الاستقرار وعدم توافر ظروف نمو الفنان والفنّ كما أسلفنا، لذلك نجد أن اللوّحات التي جاءت في مرحلة ما قبل الجلاء، جلّها حديث التكوّن، والنشأة، والإصدار، ويتحدّث من زماننا عن تلك الأزمان والفترات، وهذا ليس إلا دليلاً على وعي الفنان التشكيلي السوري، وبرهاناً للمحبّة في توثيق معاناة شعبٍ مشترك الهمّ، والنظرة الموحدة، نحو النصر، والحريّة، والانتصار لبعضنا البعض، كأبناء بلدٍ واحدٍ وتاريخٍ مشترك.