تأملات في الحادث
| د. نبيل طعمة
تحدثت أكثر من مرة، أن التاريخ لا يعيد نفسه، إنما لشدة تطابق الأحداث في زمنين مختلفين إيجاباً أو سلباً، تشعرنا كأن بها تعيد ذاتها، وحينما نستعرض مجريات أمور الشرق الأوسط بين عامي 1912 و1923، وما حصل فيها من اندلاع لحروب البلقان والحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية التي قامت بتصفية ما يقارب من 40 بالمئة من الشعب الأرمني و25 بالمئة من التابعية اليونانية، و18 بالمئة من الأقليات الإسلامية، وما أنتجته تلك الحقبة من اتفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور، وتوثيق الحدود والشعوب عبر اتفاقيات لوزان، ومن ثم اتفاقية سيفر، كل ذلك أشار حينه إلى حجم الكارثة الديموغرافية والجيوسياسية لهذا الشرق الأوسط الذي يعرف أيضاً بأنه الشرق الأدنى، حيث يظهر أنه قادر على تحمُّل الفجائع والمرور منها دائماً بأكبر الخسائر، لأنه يعيد تلك التجربة التي مرَّ منها قبل مئة عام من زمننا الحامل لتكالبات مفجعة، تجري عليه في المنطقة ذاتها، تظهر اتساع الهوّة بين الوقائع وتنسيقات الخطب الواردة من عوالم الاستعمار ومدنه التي بنيت بالاستبداد؛ باريس، لندن، طوكيو، واشنطن، موسكو، بكين، واستثنيت روما، لأنها من المدن الروحية، وهذا بحث آخر، سأستعرضه لاحقاً، وحمل عقل أبنائها فكرة البناء ذاتها حتى اليوم، ولذلك نجدها تضخُّ أوهام الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والاستبداد في آن، حيث يتصورها الكثرة على أنها صلاة متصلة، وحقيقتها منفصلة لا صلة فيها، أو كأس ويسكي، أو قدح عرق، أو علاقة مثلية، أو بنطال جينز ممزق، أو تظاهرات تبحث عن الحرية والعمل، صورة مدنية المدن من دون وعي إلى الشعوب التي سوادها لم يصل إلى إدراك لعبه مصالح تلك الدول الاستعمارية التي تضرب عرض الحائط وطوله من خلال لعبة التوازن المتنافر التي تتغلغل بين أروقة الأمم المتحدة، بعد أن أفرغ محتواها من المواثيق والقيم، وتحولت إلى صورة مخادعة وجعجعة بلا طحن، مبتعدة عن تحقيق الاستقرار والسلم اللذين كانا سبب وجود هذا التجمع العالمي.
نحن إنسان النور التاريخي، نختلف عن أولئك المتمتعين بالظلمة، يمارسون معها كل أساليب التخطيط، بغاية إحداث الغبن والإيقاع به، هذا الذي يؤدي إلى تعميم الإحباط الدائم، وبدلاً من أن نستغل الضوء، بحكم أنه هبة كونية والاتجاه سريعاً لتعريف أن وجود الكون مقدس، وزمنه الدقيق يدعو إلى مطاردة الخطيئة؛ بل للإسراع في فهم الحياة التي تأخذ بنا لفهم أسباب وقوعها، ولأنها طبع بشري، والانطلاق منها وعدم التوقف بانتظار النهاية، لأن الكائنات الحية هي الأكثر تعقيداً ضمن فلسفة الحياة التي تدعونا لتعريف المجهول الذي إن لم تصل إليه أدوات تعريفه، لا يعني نفيه، ومنه نبحث ونؤكد أننا نحن في الشرق نبع النور، ومهما حاولت الظلمة أن تستبيحه، فإن النجاح حليفنا، لماذا؟ لأن التصرفات البشرية تقتل ذاتها؛ أي تقتل المادي منها، لكن الروحي من روح الكامل الكلي، يتجزأ منه؛ أي يغرس روحه في أبنائه الحقيقيين المعتمدين والمستندين إلى قواه الخفية التي تؤيدهم، ومن خلالهم بعد سكنها في جوهرهم تهزم الخطيئة، فيظهر من خلال اتحادها بهم قدرة الدفاع عن حقيقة المقدّس التي تنهي المُدنِّس، وتكسر المدنَّس، محدثةً الولادة الجديدة التي يجب أن تظهر حتى وإن كانت من عنق الزجاجة محرمات عقلية المدن المدنية التي تشير إلى أنها خطر يتناهبها نظراً لحرمانها الفقراء من حقوق متعددة وانتشار المرض والجرائم وضعف فرص العمل وإفلاسات مركبة، وتحول المدن إلى آلات تصنع الثراء الذي يحلم به كل إنسان، وظهور النخب إلى جانب القادة، فإذا لم يقدروا على تحويل الفقراء إلى الأقل فقراً، فسيكون هناك حتمية قادمة، ألا وهي الصراع، إلى حين الوصول إلى رؤية جديدة، ناهيك عن أن سكان الأرياف ينظرون إلى المدينة والمدنية على أنها قطع أثرية يجب غزوها، ومن ثم نهبها بسبب الخدمات المتوافرة فيها، وأنها مركز للأحلام القابلة للتحقيق.
بعد مئة عام من تلك الكوارث التي حدثت في هذا الشرق، نجد الأجواء ذاتها التي امتزجت فيها العقليات الريفية بالمدنية، فأنجبت حروباً من بؤر أصولية إسلامية، ومتاجرات ادعت علمانيتها، ومتنافسين حاولوا قيادتها أو التأثير في توجيهها، وجميعها أكد حقيقتها الفاسدة، وأنها تابعة ومشرذمة، وأهم من كل ذلك فاقدة للأهلية السياسية، وكلٌّ عَمل على هواه بنسج جهادية ومسميات وعصائب أبانت التطرف بأبشع صوره، الذي اتجه إلى تدمير المدينة وتعطيل التطور السائر إلى الأمام، ومن ثمَّ أحدث التخلف، وأظهر أشكالاً إرهابيةً مرعبةً، وهذا يدلنا على أن مدنية مدن الغرب ونخبها الاقتصادية أرهبتهم عمليات التطور في الشرق الأوسط، وتسارع حضورها، فكانت الإرادة في الاتجاه إلى تدميره وتقسيمه عبر استئثار الضغائن والتحريض الريفي الديني الجهادي ضد أي وجود مدني، ومن خلال الأدوات ذاتها، إنما بدعم وتوجيه يحمل في طيّاته تعميم التخلف والتبعية الذي ينجب أزمات لجوء وإرهاب وقتل ودمار وموت، وأهم من كل ذلك محاولات موت الشرق؛ أي موت الأوطان فيه وقتلها.
ها هي السنة الثامنة من حراك سلبي عملت عليه المدنية الغربية، غايتها الرئيسة قتل أحلام البسطاء مع المتطلعين إلى الحياة، وإلى نهضة الأوطان التي لا تحققها العقائد السلبية، ولا الصراعات أو النزاعات الدينية أو الطائفية أو النخب التي تعتبر ما دونها دوناً، تنفصل عنها، معتبرة إياها طبقة عبيد، وفي الوقت ذاته، هذه النخب حملت في جوهرها لغة مزدوجة؛ إي إنها دمجت الريفية بالمدنية، والدينية بالعلمية، والعلمانية بالإلحاد.
شرق لم يستطع أن يتخلص من أفكار المزج، كي يبدع صورته خاصته، ولم يقدر أن يستفيد من وجود القمم، ويتعلق بها كي يرى الطوفان في مرحلتي حدوثه وانحساره، ولم يتجه لتحديد مصادر عذاباته، ولم يفرق بين الله والشيطان والشيطنة، لم يصل إنسان الشرق إلى مفهوم اللعبة الإرادية التي تسمح لنا بالإنجاز وتحقيق الإعجاز في فترة الحياة التي يجب أن تكون مفيدة، لكي نسجل أسماءنا في سجلها.
الوطن جغرافيا وإنسان، يحتاج مثل الأشجار إلى الماء والهواء، ومن دونهما الاثنان يموتان، والذي يحيطنا بعد كل هذه السنوات العجاف ويمر معنا لهو خير دليل.
ما المانع من أن نعيش حياة طبيعية؟ هناك الكثير من الموانع، منها إصرار الآخر على تخلفنا وقبول سوادنا له، إضافة إلى أنَّ الأطماع الخارجية لا تقف عند حدود، وقبولنا الدائم لثقافة الغزو والحروب، وهذا ما يستدعي الفكر والتفكر في المأساة، وكي لا تتشابه الأحداث، وتنطبق على بعضها، تحتاج لاستفاقة نوعية وعاجلة.
ما أصعب القهر حين يقع نتاج الظلم والعدوان!! شعور يحتاجه شعبنا، فهل نتأمل في الحادث الحالي ونخرج منه إلى المستقبل؟
الحادث تكاثر عشوائي، بمعنى الانفجار السكاني، وإهمال للريف، وتقدمات وهمية في مدنية المدن، لهاث الكثرة وراء تأمين لقمة العيش بلا وعي، ظهور موجات قليلة من النخب الاقتصادية غير الواعية، وفقدان الهويات الفكرية والثقافية والاجتماعية، هذا ما تريد استمراره مدنية المدن الاستبدادية والاستمرار على هذه النهج من دون بناء لفكرة ديمومة الإنتاج، ما يعطينا مؤشراً إلى استمرار الفوضى، حتى وإن تغلفت بأثواب مدنية أو حضارية، تأملات في الحادث، دعونا نتأمل.