الأزمة أبرزت أسماء لم تتجرأ على طرح نفسها في الساحة … عبد الحميد الفياض لـ«الوطن»: أنا قارئ نهم وكنت أكاديمياً جيداً والأزمة أعادتني للرسم
| سوسن صيداوي
انقطاع وابتعاد من بعدهما العودة. الأزمة السورية بسنيها السبع، كانت سببا للإقصاء بعيدا والانعزال، أو سببا للتشجّع والظهور، بعد التوقف كثيراً بين جنبات الحيرة والتردد. على عكسه هو، صحيح أنه انعزل وابتعد عن الرسم، إلا أنه عاد متأثرا كوضوح رهافة إحساسه وبتهدج صوته، وبدمعته النافرة من عينه والتي حاول مرارا كبحها، إنه الفنان التشكيلي عبد الحميد الفياض، رجع إلى الساحة مرحبا به بحفاوة من زملائه وأصدقائه والمهتمين، خلال معرضه الذي أقامه في صالة فاتح المدرس بدمشق، مقدماً فيه بعضاً من أعماله التي تتجاوز المئة- حسب ما تستطيع الصالة استيعابه- التي عبّر فيها عن نظرته لما حلّ بوطنه، مجسّدا صور الألم والحزن الناتجة عن القتل والتنكيل، داعيا إلى الأمل وبناء مستقبل جديد بالفكر المستبعد والرافض لكل أسى أو ظلم أو دعوة إلى الشرور وحتى للانتقام من آلام الحرب التي لا تعرف إنسانية. «الوطن» التقت الفنان وتوقفت معه عند العديد من النقاط، إليكم ما دار:
قيل مرة فيك إنك تميزت بالثقافة الفنية العالية، وقراءاتك العميقة لواقع الفن التشكيلي المحلي والعالمي، تجعلك أكثر تأثرا من غيرك بالمتغيرات التي تطرأ على الساحة العامة… ما تعقيبك؟
بصراحة أنا كنت متوقفاً عن العمل فترة طويلة، والذي حرضني على العودة إلى الرسم، هو ما أصاب سوريتنا من وجع، ففي عام 2011 عدت إلى الرسم من جديد، وبقيت مواظبا ومستمرا فيه حتى هذه اللحظة، موثقاً نحو مئة عمل تتناول كلّها المرحلة التي مرّت بها سورية. أما بالنسبة للسؤال عن ثقافتي الفنية، فأنا قارئ نهم، وكنت أكاديميا جيدا، والأهم من هذا كلّه أن أي أحد فينا، لديه الحس الوطني والإنساني، من الطبيعي أن يتأثر بهذه الظروف. لقد بدأت مرحلتي الفنية من بعد عام1967حيث رسمت ما حصل في العام نفسه، وفي عام 1973 رسمت حرب تشرين التحريرية، حتى رسمت عن حرب لبنان، والقضية الفلسطينية، وحتى مشروع تخرجي كان يحكي ما حصل في عام 1983 والذي تحدث عن حرب لبنان مصورا ما تمر به الإنسانية وتعانيه من حروب مستعرضا التاريخ وذلك بالعودة إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، من أيام الحضارات القديمة، السومرية والبابلية والآشورية، وكان المشروع تحت اسم (مازال القتل مستمرا).
كيف عكست الأزمة السورية على الحركة التشكيلية؟ وهل أنت متفائل؟
قد تكون القضية سلاحاً ذا حدين، الأزمة سمحت بأن تبرز أسماء لم تكن قادرة على التقديم، أو كانت خائفة من طرح نفسها على الساحة التشكيلية، وأيضا الأزمة سمحت بحدوث نوع من الفراغ بسبب غياب بعض الأسماء الكبيرة التي كانت مهيمنة على الوسط الفني في سورية، ومن ثم هذا الأمر أعطى فرصة للفنانين الآخرين بأن يتحرروا ويندفعوا متجرئين كي يقدموا أعمالهم. طبعا هذا الأمر لا يعني أن كل ما يتم تقديمه هو جميل، أو كل ما يتم تقديمه مهم، ولكن هذا يدل على مؤشر مهم، بأن الفنان التشكيلي السوري- سواء الجيل الصغير أم الجيل الكبير- الذي كان متوقفا عن العمل، بدأ يتنشط ويبحث لنفسه عن مكان في الساحة، وهنا أحب أن أشير إلى أنه على الرغم من أن المرحلة سلبية ولكن من حسناتها أن الفن السوري انتشر أيضاً في العالم.
على سيرة العالمية… إلى ماذا يحتاج الفنان التشكيلي كي يصل إليها، وخاصة أن الطرف الآخر ينظر إلينا ويحلل الركيك كي نبقى- بحسب قولك- بدائيين؟
في الحقيقة هذا هو الموقف الرسمي الغربي، ولكن الموقف الشعبي مختلف، وخاصة أن الأخير يحب أن يرانا على حقيقتنا في صدق مشاعرنا أو أفكارنا من حزن وفرح.. إلخ، على حين الموقف الرسمي يرّوج للفن البدائي العربي، حتى لا تظهر أسماء عربية قادرة على منافسة فنانيهم، انطلاقا من نقطة مهمة وهي أن الفن التشكيلي بالنسبة للأوروبيين هو سوق، حتى من أحد بنوده المهمة ومن أجل تشجيع الحركة الفنية والبيع والشراء، عندما التاجر يشتري لوحة فهو معفى من دفع الضريبة. إذاً الخوف من الفن الشرقي ليس بالأمر الجديد، فالدول الغربية منذ أن تأسست بدأ خوفها من الفن الشرقي، ولا أقصد هنا فقط الفن العربي بل أيضا الفن الصيني والياباني، فلا يوجد منزل في أوروبا إلا ويحتوي قطعة صينية أو يابانية، فالخوف أصبح هاجساً عندهم وهم يسعون دائما لوضع خطة بديلة، وأن يقوموا بحماية فنهم التشكيلي عن طريق محاربة الفنانين البسطاء، ومن ثم من خلال التسويق للفنانين البدائيين وإقامة المعارض لهم، وبالتأكيد أنهم متمسكون بهذا النوع والمستوى من الفن التشكيلي، ولكن وعلى الرغم من كل المحاولات.. إلا أنه لدينا الكثير من الأسماء السورية العالمية الحاضرة بقوة، كما أن لدينا من الفنانين المحليين الذين يتمتعون بمستوى فني عالٍ ولكنهم مازالوا هنا ولم ينطلقوا بعد للعالمية، وهنا أحب أن أشير إلى نقطة: إذا لم يكن المرء أصيلا ومتمسكا ببلده، فلن يكون في الخارج نجما، لأنه لن يحظى بالاحترام المطلوب، فمثلا الفنان التشكيلي عمر حمدي لما ذهب إلى أوربا وأصبح فنانا عالميا، كان فنانا مهما في سورية، بالمقابل نجد أن هناك بعض الفنانين ذهبوا إلى الخارج كي يعملوا ويقدموا فنهم هناك، لكنهم لم يحققوا الأهمية أو الانتشار المطلوب.
قلت مرة «لن تصبح نجما مهما فعلت… عليك بالمركز، حتى لو بدأت متشردا»، ألهذا اخترت العاصمة دمشق لتُطلق منها معرضك الأخير؟
في الحقيقة أنا مرتبط جدا بدمشق، حلب مدينة أحبها وقريبة من قلبي- وحتى أصولي البعيدة منها-ولكن مناخها الحالي ليس مهيئا، وبالعودة لاختياري دمشق، صحيح أنها المركز، فإقامتي هنا وأصدقائي هنا، والإعلام متمركز هنا، والتواصل مع الخارج متوافر ولو كان محدودا.
حدثنا عن معرضك الأخير..
ضم معرضي ثلاثين عملا، وذلك بسبب استيعاب صالة فاتح المدرس. واللوحات كلّها من مناخ واحد، فقسم منها يحكي عن بداية الأزمة ويؤرشف المرحلة، على حين يتكلم القسم الثاني من الأعمال عن رؤيتي الخاصة وهي نوع مختلف من اللوحات فيه بريق من الأمل ومختلفة عن القسم الأول.
حدثنا عن الألوان، فأنت بارع في أسلوب مزجها المبهر لعين المشاهد على الرغم من قوة الألوان المختارة؟
لم يكن هدفي الإبهار بقدر ما هو دخولي بتحدّ مع نفسي من خلال تجارب صعبة، فالألوان التي اخترتها، لا أحد يتجرأ أو يحب أن يقدمها، مثل اللونين الأخضر والأحمر، فهي من الألوان الصعبة جدا، ومن النادر أن نجد فنانا يُقدم على استخدامها، على حين أنا أجد أن اللون قادر على أن يخدم الفكرة، ويخدم اللوحة لأنني أرى أن المرحلة صعبة والفكرة صعبة لهذا يجب أن يكون اللون صعبا.
ماذا عن شخوصك، والإنسان اليوم في الأزمة وما الرسالة؟
أتمنى أن تشبه الإنسان السوري وتجتمع في فريق واحد كما حدث في اللوحات التي قدمتها، وأن يحملوا الورود ويقدموها بعضهم لبعضٍ، لأن سورية وطننا جميعا وهي وطن واحد والإنسان السوري واحد. أنا متفائل بالقادم، وأتمنى أن أكون قد أوصلت رسالة بصرية للمشاهد والمتلقي في سورية، مركزاً على وجودنا فيها وتمسكنا بها، مجسدا همومها اليومية طوال السنوات السبع الماضية.
رأي في معرض
في افتتاح معرض التشكيلي عبد الحميد الفياض كان الفنان التشكيلي جورج عشي حاضرا فحدّثنا عن رأيه بالأعمال قائلاً: «عبد الحميد الفياض هو فنان وإنسان متمرد من الداخل ومتمرد في لوحاته، هناك أمور يقولها، تعبر عن داخله. هو رسام وفنان جيد وتمكّن من أن يوصل لنا الفكرة، بأنّ هناك أموراً غير مريحة بالنسبة له سواء في حياته أم في الحياة العامة، تقنيته عالية، والألوان فيها الكثير من الاحترافية، والخط عنده واضح وقوي».
وقد كان لأستاذ الأدب المقارن إبراهيم الجرادي رأي ونظرة حيث قال: «يعتبر عبد الحميد انعطافة في الفن التشكيلي السوري وخاصة أن جيله يأتي بعد جيل الفنانين فاتح المدرس، الياس الزيات، لؤي الكيالي، المشحونين بقيم اجتماعية كبيرة جداً وحالة من التمرد سادت في السبعينيات الثمانينيات من القرن الماضي وفي كل أنواع الفنون في سورية. وعودة عبد الحميد بعد صمت دام سنوات طويلة تشير إلى أنه من القلة الذين يعكسون ما يجري في سورية في لوحاته، يظهر ذلك في الشخوص المتعبة والمرهقة والمثقلة بهموم الظرف الصعب، لذلك إن لم يتفاعل الفنان بمحيطه يصبح الفن حالة عارضة وعابرة، والفنان تميّز بقدرته على عكس ما يجري في سورية بعيدا عن المباشرة والتقريرية، كما يمتلك حس البحث عن وسائل فنية جديدة، فهو يمتلك القدرة التشريحية والتقنية الفنية».