الغوغائية المشلة
| زياد حيدر
لا أعرف كم منا توقف ما يكفي من الوقت أمام الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام، من اكتشاف مقبرتين جماعيتين لشهداء الجيش في الرقة منذ أيام.
الليرات المتأكسدة الخضراء، رزمة المال التي لا تكفي الآن ثمن زيارة يومية واحدة لبقال، الحذاء الرث بالأصل، الرتب العسكرية المغبرة والخاتم المعلق بسوار المعصم.
الصور تحكي، بصمت، في عمقها أصوات كثيرة لا تسمع، تأوهات لا تصعد، نسيم هواء نشعر به، محملا بروائح مألوفة وغريبة في آن.
الصور تمتلك قلوبا نابضة، واسألوا المصورين. في الصور عروق تجري بها الدماء، وسواق تجري بها المياه، وصدور تعبث بها المشاعر. كما أنه ليست الصور وحدها هي التي تتكلم. التعابير و«فشات الخلق» على جدران السجون، والزنازين، وجذوع الأشجار، ليست كلمات مصفوفة فقط. الرسومات الخجولة والبدائية ليست خطوطا مبعثرة فقط، وإنما حكايات، تأملها بهدوء، بقلب مفتوح، وذهن منفتح، فسترى أن العبارات تنطق بأصوات أصحابها، وسترى الرسم يتحرك، ويخاطبك، ويكتسي لحما ودما. الرسائل التي يعرف تماما كاتبها أنها ستصل يوما ما، على جدران سجون التوبة، وغيرها من السجون، هي رسائل أراد أصحابها أن تصل، لأحبائهم، لمرافقيهم، لعوائلهم، لأصدقائهم. هي رسائل وليست تفصيلا نمر فوقه، هكذا ببرود وعجرفة.
هذه الحرب، لم تعلمنا شيئا من هذا بعد. أو لم تعلم معظمنا كي لا نعمم، فالتعميم ظالم عموما.
منذ سبع سنوات، وحتى اللحظة، تولد الدراما لدينا كل يوم. ومن رحم كل قصة تولد قصص لا تحصى. مختلفة ومتشابهة لحد الإعجاز. في سورية قصص تكفي البشرية أعواما من التأمل. بغض النظر عمن يرويها، ولكن من دون إهمال كيف تروى، لأن الاحتراف هنا في طريقة الرواية لا القصة ذاتها فقط.
يمتلك الإيرانيون سينما، مشهوداً لها في العالم، تركز على تفاصيل متناهية الصغر والاعتيادية، يقدمونها بطريقة، نكتشف فيها غموض أنفسنا والآخرين.
في سورية، التفاصيل البسيطة أكثر من المعقدة. ولكن أين هي في الوعي الذي يتكون يوميا لدينا؟
كان صديق لي يقول إنه دوما حين يعود لبيته لا يستخدم المفتاح، يعرف أنه يزعج الآخرين، بانتظار أن يفتح له الباب، ولكنه يريد تكرار المتعة اليومية في رؤية وجه من يحب مستقبلا له.
هذه الصور والتعابير، مناسبة لهذا الكلام وغيره كأنما لا أمل من تكراره. نحن ظالمون بحق أنفسنا، وبحق الضحايا التي كلفتنا أرواحهم هذه الحرب، من نعرفه ومن لا نعرفه.
الغوغائية تقتلنا، الاستخدام المفرط للشعارات التي ليست سوى شعارات، التعابير الجاهزة، المصطلحات المحفورة في الحديد والخشب والذهن، الجمل التي لا تقبل مرونة ولا ابتكاراً، الارتداد العقلي والذهني للوراء، لمستنقع الأمان الفكري والاجتماعي والسياسي.
الديماغوجية، تقتلنا أيضاً، سيل الكلام، المختلق، والسطحي، المتناثر هنا وهنالك، من دون تدقيق، ومن دون معنى، ومن دون هدف.
يجب علينا أن نكبر، يجب علينا أن ننضج، ونعترف بمرور الزمن، ليس في أجسادنا وإنما في جسد البلاد، وهذا الإدراك لا يحتاج لإعجاز ولا لمعجزات، يحتاج ليقين فقط.
الصور التي مرت ورسائل السجون، هي عزف منفرد حتى اللحظة.
الغوغائية ليست سلاحاً، إلا إن كان القصد منها أن نشل أنفسنا، ويسري الأمر أيضا على سيول الكلام الفارغ التي تمتلئ به يومياتنا.
الابتكار والخلق هو ما يجب، تحرير العقل والخيال هو السلاح.