ما بعد عراق برايمر
| عبد المنعم علي عيسى
سيكون لزاما أمام المرشحين للانتخابات العراقية وقف حملاتهم الانتخابية يوم العاشر من الشهر القادم أي قبل 48 ساعة من انطلاق دوران العجلة التي ستحدد ملامح المرحلة المقبلة للعراق الجديد، وربما تشير العديد من المعطيات إلى أن هذه الجولة قد تكون هي الأهم من سابقاتها الثلاث اللواتي أعقبن سقوط بغداد في نيسان 2003.
لم تستطع الطبقة السياسية التي وضعتها الدورات الثلاث الماضية في سدة السلطة في بغداد، بدءاً من انتهاء عام بول برايمر 2004، الوصول إلى إنضاج رؤية شاملة من شأنها أن تساعد في إدخال العراق طور الترميم ثم الانطلاق نحو البناء بشتى نوعيه المجتمعي والاقتصادي، صحيح أن المعوقات كانت عديدة وكبيرة وبعضها مرحلي كانعدام الأمن والاستقرار وظهور داعش، إلا أن البعض الآخر كان من النوع الدائمي بفعل السياسات التي اعتمدتها الطبقات التي أمسكت بالسلطة، فقد كان واضحاً على امتداد السنوات الخمس عشرة الماضية سطوة ثنائية: الطائفية والعراقية على آليات صناعة القرار السياسي وعلى هياكل غرف صناعة ذلك القرار، هذا العجز في إنضاج تلك الرؤية كان بفعل فقدان التجربة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمهد عادة للتحولات السياسية، فالسياسة في النهاية ليست إلا انعكاساً لوقائع الاقتصاد والديموغرافيا والفكر السائدة، وبشكل من الأشكال كانت سيطرة حزب الدعوة الإسلامي على السلطة على امتداد المرحلة الماضية يشكل نوعاً من ممارسة ردة الفعل لا الفعل السياسي، فالحزب كان محظوراً وقد عانت كوادره وقياداته من الملاحقة والنفي، وعندما دفعت به مجموعة من التوازنات الإقليمية والدولية إلى سدة السلطة ظل حبيس تلك العقلية الانتقامية التي ما انفكت تعمل على زراعة الألغام للمراحل المقبلة بدلاً من قيامها بدور نزع الألغام المزروعة المهمة التي من شأنها نقل المجتمع حتمياً نحو مراحل تطور ومهام أعلى على سلم التطور الاجتماعي، ولطالما برزت تلك العقلية بأجلى صورها زمن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، لكن على الرغم من أن سلفه حيدر العبادي قد استطاع التخفيف من حدة فعل تلك الثنائية إلا أن ذلك كان فعلاً إعلامياً وليس جوهرياً يطول عمقها أو هو يعمل على نسفها، وما ساعده عملياً لتحسين صورته هو مجموعة المكاسب التي تحققت في عهده مثل هزيمة داعش ووضع حد لطموحات الأكراد الانفصالية في كركوك، لكن المتابع جيداً سيرى أن ذينك الإنجازين كانا حصيلة تدافع معطيات وصراع قوى إقليمي دولي، فهزيمة داعش كانت قراراً دولياً وإسقاط مشروعات الانفصال الكردية كانت استناداً لدعم كبير في الوقت الذي لم يكن الانفصاليون يحظون سوى بدعم أميركي إسرائيلي بدا أن قدراته عاجزة عن تحقيق أهدافهم أو مشروعاتهم على الأرض، ولا يذكر أن العبادي قد استطاع نزع فتيل لغم مهم من نوع إلغاء قانون «اجتثاث البعث» الذي يعني بغض النظر عن كل شيء حالة الغائية تطول شرائح واسعة من العراقيين والمشكلة هو أن ذلك القانون كان قد ارتبط بحالة طائفية معينة أوجدتها تعقيدات المجتمع والأنظمة، وربما جل ما يحسب له، أي للعبادي، هو ما يقال عن إعادة التوازن لعلاقات العراق مع محيطيه العربي والإقليمي، وربما كان في الأمر ما يدعو إليه إلا أن ذلك وحده لا يمثل شرطاً كافياً للولوج إلى عراق جديد، فالأولوية يجب أن تكون للآلام المزمنة من نوع إعادة المارد الطائفي إلى القمقم الذي خرج منه، أو إضعاف أثر النزعة العراقية بما يساعد في الوصول إلى نسيج مجتمعي متماسك وهو قادر أن يعيد للعراق وزنه ودوره الذي يستحقه.