مع العدوان على سورية.. الرئيس بوتين ينتج نظاماً عالمياً جديداً
| د. قحطان السيوفي
في المشهد الساسي الدولي الحالي يبرز دور روسيا الفاعل في العالم بقيادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الرجل الذي وصفته صحيفة «فاينانشال تايمز» بـ«الداهية»، والمعروف بحنكته السياسية والدبلوماسية.
ولد بوتين في مدينة ليننغراد عام 1952، في عائلة فقيرة، يحمل إجازة في القانون، ودكتوراه في فلسفة الاقتصاد، التحق بالاستخبارات الروسية عام 1975، وفي عام 1999 تمّ تعيينه سكرتيراً لمجلس أمن الدولة، ثم عُيّن رئيساً للوزراء في العام نفسه، وبعد استقالة الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين في عام 1999 عُين بوتين رئيساً لروسيا بالإنابة واستمرّ في الرئاسة حتى عام 2008 ثمّ أعيد انتخابه في عامي 2012- 2018.
رجل المهمات، ذو قوّة ولياقة، متّقد الذكاء، لاعب الجودو، يصطاد النمور، يُجيد امتطاء الخيول كفارس، هذه الصفات تقود لتكوين صورة القائد الحاسِم والهادئ والشجاع والواثق من نفسه، التي تتلاقى مع رغبة جماهير روسيا التوّاقة إلى هذه الصورة في عام 2000 استلم فلاديمير بوتين مقاليد الرئاسة في روسيا، ليبدأ عصراً جديداً، لإعادة ألق القوة الروسية، وكانـت المهمـة الرئيسـة إعادة هيبـة الدولـة التـي تراجعـت أيام الـرئيس يلتسين، والتمكن من اسـتعادة مكانـة روسـيا كدولـة كبـرى، ووقــف التــدهور الاقتصــادي، وزيــادة معــدلات النمــو، والتمسك بالثوابت الوطنية التـي يمثـلها الدسـتور، وأعاد بوتين فرض الاحترام لروسيا كقوة كبرى في العالم وتأكيد هيبتهـا العسـكرية، واستطاع أن يعيد لشعبه الشعور بالفخر والاعتزاز الوطني والاستقرار، وهي أمور تدخل في تكوين سيكولوجية الشعب الروسي.
يقول الفيلسوف والروائي فيودور دوستويفسكي: الشعب الروسي يُحب الزعيم القوي الذي يحفظ كبرياءه وقد وجده في الرئيس بوتين الذي أعاد لروسيا موقعها العالمي.
دراسة قام بها مركز أبحاث الرأي العام الروسي في آب 2017، تظهر أنّ 83 بالمئة من الشعب الروسي يؤيّدون بوتين.
شبكة التلقزيون الأميركية «سي. إن. إن» في مقال بعنوان «لماذا بوتين هو أقوى رجل؟» تجيب أنه من أجل فهم بوتين، يجب أن تفهم روسيا حيث شهدت مئة السنة الأخيرة تطورات وأحداثاً كبيرة، ومن بعد كل ذلك، أتى بوتين، مبشراً بالاستقرار.
موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم من الرئيس بوتين عدائي بامتياز، وبعيداً عن القضايا المتعلقة بالسياسة المتقلبة في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، هناك أوجه اختلاف كبيرة، فترامب متهور مزاجي فظ، ولا يمكن التنبؤ بسلوكه، على حين أن الرئيس الروسي هادئ ولا يفصح عن مشاعره.
وعلى الجانب الآخر، فإن الطموح المُعلن للرئيس ترامب هو: ممارسة ضغوط على الحلفاء لدفع أموال مقابل الدفاع عنها وشفط المزيد من أموال حكام دول نفط الخليج العربي، ويُنظر إلى مواقف الرئيس بوتين في أوكرانيا وسورية على أنها منسجمة مع العدالة والشرعية الدولية، وتعزيز للوجود والنفوذ الروسي والرد على الغرب بسبب توسع الناتو في شرق أوروبا.
آلة التعامل الداخلي والخارجي الروسية في ظل إدارة بوتين تكشف عن مَواطن القصور الأخلاقي في الغرب، وكثيرا ما يقال إن روسيا هي منافس للديمقراطية الغربية.
يرى الكثيرون من الباحثين والخبراء حتمية انهيار نظام القطب الواحد وأن النظام العالمي يتحول من نظام أحادي القطبية تحكمه الولايات المتحدة، إلى التعددية القطبية، حيث ظهرت قوى عالمية فاعلة ومؤثرة مثل روسيا والصين.
بدأت عملية إعادة التوازن للنظام الدولي بشكل تدريجي، وشكلت الهزيمة الأميركية في العراق على يد المقاومة العراقية عاملاً لانسحاب القوات الأميركية من العراق في عام 2011 وانخفاض نسبة التحكم الأميركي في الشرق الأوسط، وظهرت أولى دلائل العودة إلى التعددية القطبية من خلال الحرب في سورية التي بدأت عام 2011، حيث دعم المحور الأميركي وحلفاؤه القوى الإرهابية التي تريد تفتيت الدولة السورية ومحاولة استبدال النظام بآخر موال للغرب الأطلسي، إلا أن الرئيس بوتين وقف في وجه الموجة الأطلسية وحلفائها في سورية، وبطلب رسمي من الجمهورية العربية السوري أرسل القوات الروسية عام 2015 لمواجهة الإرهاب ودعم الحليف السوري، وقلب الطاولة على ما سمي التحالف الدولي الذي كان يقول إنه «أسقط «من دون قصد» أسلحة إلى داعش بالمظلات وقصف «من دون قصد» الجيش العربي السوري، ليأتي الجيش الروسي بسلاحه الجوي وصواريخه وبوارجه ويتعاون مع الجيش العربي السوري والحلفاء إيران وحزب الله للقضاء على التنظيمات الإرهابية.
إن موقف الرئيس بوتين من الأزمة السورية وتصديه لتهديدات ترامب العدوانية بضرب سورية تؤكدان حكمة وصلابة موقفه في دعم قضايا العدل والحق بوجه العدوان، ويدعو الرئيس بوتين لتغليب المنطق السليم في الأمور الدولية وفرض نوع من التوازن الدولي في إطار التعددية القطبية والنظام العالمي الجديد، وقد جاء التفكير الاستراتيجي الروسي في عهد الرئيس بوتين في انتهاج التوجه الأوراسي الجديد، إضافة للجهود الروسية في بناء مجموعة بريكس التي تتكون من البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا، وأيضا منظمة شنغهاي، كما استطاعت إدارة الرئيس بوتين صد موجة العقوبات الأميركية وتجاوز تبعاتها، فلم يتوقف الاقتصاد والصناعة الروسية عن التطور بعد فرض هذه العقوبات.
عودة القوة الروسية كلاعب رئيسي على الساحة الدولية، يأتي في وقت يتراجع فيه الدور الأميركي ويتعزز فيه دور التنين الصيني، الأمر الذي يدخل النظام العالمي في مرحلة التحول إلى التعددية القطبية.
اليوم محور المقاومة: روسيا وإيران وسورية وحزب الله، يشكل قوة كبرى تتصدى للهيمنة الأميركية، وسورية شهدت ولادة نظام التعددية القطبية؛ كبديل لنظام «القطب الواحد» الآخذ في الترنح وستضطلع روسيا بأدوار مهمة في ظل هذا النظام، وفي المحصّلة الرئيس بوتين نجح في فرض رسالة مفادها أن العدوان الثلاثي الغربي على سورية أكد الإفلاس الأخلاقي للقطبية الأحادية التي تمثلها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وقوة وصلابة موقف القطب الآخر الذي تمثله روسيا وحلفاؤها في سورية.