بانوراما التوتر الراهن
| عبد المنعم علي عيسى
تبلورت الآفاق والأطر بل التفاصيل التي تقف وراء عدوان الرابع عشر من نيسان، وكذا المرامي التي هدف إليها، فقد بدا واضحاً أن حجم السعار المحموم الذي أعقب ذلك العدوان إنما يسعى عبر التركيز على الملف الكيميائي السوري إلى جعل هذا الأخير منصة يجري من خلالها تقويض كل ما تحقق على طريق التسوية السورية والعودة بالأزمة إلى نقطة الصفر من جديد، واللافت هو أن ذلك المسار وإن بدا مرتبكاً إلا أنه كان يعمل على تدارك أخطائه وتلافي ثغراته التي وقع فيها.
في أعقاب العدوان جرى الإعلان في كل من واشنطن وباريس أن الضربة أدت إلى شل قدرات دمشق على شن هجوم كيميائي جديد، ليكتشف هؤلاء أنهم ارتكبوا بذلك خطأ جسيماً من شأنه أن يودي بالدجاجة التي تبيض ذهباً، لنرى تصحيحاً سريعاً للخطأ كان قد مورس من العديدين كل حسب موقعه، لكن الكل كان يريد أن يؤكد أن دمشق لا تزال لديها قدرات كيميائية «محدودة»، وكل ما سبقه تنظر إليه موسكو بقلق بالغ لأنه ببساطة محاولة للعودة بالأزمة إلى مطارحاتها الأولى، وهو الأمر الذي يفسر سعياً روسياً حثيثاً لتلطيف الأجواء مع واشنطن لنرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يعلن يوم الجمعة الماضي أن واشنطن لم تتجاوز الخطوط الحمر في ضرباتها الأخيرة ضد دمشق.
بحسب وكالة «بلومبيرغ» الأميركية فإن موسكو عممت على مسؤوليها ودبلوماسييها ضرورة التراجع في لهجة العداء المستخدمة تجاه واشنطن على الرغم من مسلسل التحريض الغربي الذي لم ينقطع ضد موسكو، وكذا وبحسب «بلومبيرغ» أيضاً، فقد جرى في الأيام القليلة الماضية سحب مشروع كان قد تقدم به مشرعون روس ويهدف إلى فرض عقوبات على شركات أميركية وإلى أجل غير مسمى.
ترى موسكو أن معركة تنظيف الجنوب السوري المقبلة تحتاج إلى توافق مع الأميركيين بشكل أو بآخر، لكن على المقلب الآخر تنظر واشنطن ومعها باريس ولندن، إلى أن اكتساح الحكومة السورية للفصائل المسلحة ووقوع المزيد من الجغرافيا تحت سيطرتها أمر لا يخدم التسوية السورية، أو هو يخل بالتوازنات المتفق عليها فإن لم يكن، بمعنى إذا لم يكن هناك اتفاق رسمي، فإن التوافق يجب أن يفهم إيمائياً في ضوء التفاهمات الكبرى، ولذا فإن اقتلاع الفصائل المسلحة الموجودة في الجنوب وفي إدلب من شأنه أن يعطي للمعارضة السورية ثقلاً صفراً، لن يخولها فرض أي شروط عندما تحين لحظة دوران عجلة المفاوضات الحاسمة.
ما تكشف في أعقاب العدوان كان كثيراً، وهو يؤكد بأن لا علاقة لـ«كيميائي دوما» به من قريب أو بعيد، فها هو رئيس الأركان الفرنسي يقول بعد ثلاثة أيام: «هذه مهمة لنا كنا نستعد لها منذ عدة أشهر وقد وافق الشركاء على تنفيذها ضمن إطار مسؤولية فرنسا»، ثم أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الضربة مكنت من التفريق بين روسيا وتركيا، وهو ما اضطر بهذي الأخيرة إلى الرد على التصريحات الاستفزازية لباريس وأعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن بلاده كانت قد رفضت طلباً للرئيس الفرنسي لحضور القمة الثلاثية التي احتضنتها أنقرة، وهي القمة التي انعقدت في السادس عشر من آذار الماضي.
يمكن الاستنتاج أن فرنسا مارست دور «اللولب» في عدوان الرابع عشر من نيسان، وقد حاولت التنطح للدور الذي مارسته في ليبيا آذار من العام 2011، ومن المؤكد أن الضربة ولدت في رحم الناتو، وهي بالدرجة الأولى ذات خلفية نفعية أيضاً وربما هيأت لها شركة TOTAL النفطية الفرنسية بالتعاون مع نظيراتها في أميركا وبريطانيا، وإذا ما اتفقنا أن الحرب في سورية وعليها تقوم في جزء كبير منها على لهيب الغاز السوري الذي لم يغادر طبقات الأرض العميقة بعد، عندها يتضح قلق الغرب وشركاته من إمكان استفراد روسيا برعاية التسوية السورية.
إن الحراك الغربي الراهن بما فيه العدوان العسكري، يريد أن يقول إنه من الممنوع على موسكو النجاح في المسار الذي تصر على أن تذهب فيه، فمسار أستانا البادئ منذ مطلع العام 2017 ينظر إليه الغرب على أنه محاولة لسحب الملف الأمني من جنيف، وكذا مؤتمر سوتشي المنعقد في كانون الثاني الماضي على أنه يهدف لسحب السلة الدستورية من جنيف أيضاً، أو على الأقل تحديد حركية هذا الأخير في ذلك المسار، عبر إغلاق كل الممرات أمام معضلة الانتقال السياسي ليفتح أمامها ممرين اثنين فقط هما الدستور والانتخابات، هذه هي النظرة الغربية للأداء السياسي الروسي، بل إن الأميركيين يرون أن التحالف الروسي الإيراني التركي في سورية لم يقم أصلاً إلا على أنقاض حالة الافتراق الأميركية الروسية التي بدأت عملياً منذ أن أفشل البنتاغون اتفاق أيلول 2016 ما بين وزيري الخارجية لافروف وجون كيري.
أما دوافع الأوروبيين في مواجهة الروس في سورية فهي محاولة للتخلص من السطوة الروسية فيما يخص اعتمادهم على الغاز الروسي الذي تصل نسبته إلى 70 بالمئة، ولا خيار في ذلك إلا عبر الجغرافيا السورية إما عبر استخدامها معبراً للغاز باتجاه أوروبا، أو عبر استخدامها مصدراً للغاز الذي يحويه البر والبحر السوريان، ولمعرفة خطورة وأهمية هذه النقطة، نقول إن كل دول العالم تسعى إبان اختيارها لمصادر حصولها على الطاقة إلى تعددها بشكل كبير، بحيث لا يشكل أي من تلك المصادر ثقلاً قاصماً لظهرها الاقتصادي فيما إذا فقدته لسبب أو لآخر، أي بمعنى آخر تحسب حساب التقلبات السياسية في هذا الملف بالدرجة الأولى، ناهيك عن أن تمركز مصدر الطاقة في بلد واحد أمر له تبعاته السياسية وفيها يصبح القرار السياسي في هكذا حالات رهين هذا الأخير بدرجة مقلقة.
من المهم القول إن موسكو لا يهمها السيطرة على الجغرافيا السورية ولا على الغاز الدفين فيها فلديها منهما فائض، لكن من دون أن يعني ذلك أن شركة «غاز بروم» قد تبنت الرهبنة مذهباً لها، فهي قد تبحث لتحقيق مكاسب، إلا أن هذه الأخيرة لا تشكل بأي حال من الأحوال بؤرة يرى صانع القرار الروسي نفسه مضطراً للالتجاء إليها أو لتلبية احتياجاتها، وجل ما تسعى إليه موسكو في هذا السياق هو ألا يستطيع الغرب أو شركاته السيطرة على الجغرافيا السورية كممر أو منبع للغاز، وهو ما يفسر وقوف موسكو ضد قيام دولة كردية في الشرق والشمال الشرقي السوري فهذه الجغرافيا المفترضة يمكن لها أن تلعب الدور البديل الذي كان مرجواً من نظيرتها السورية في حال وجدت لها منفذاً بحرياً على شاطئ المتوسط.
ما يلاحظ هنا هو أن المخاوف من تقسيم سورية لدى موسكو قد تزايدت مؤخراً فقد تصاعدت تحذيرات المسؤولين الروس من النيات الأميركية التي ما انفكت تسعى إلى تفكيك الجغرافيا السورية، وفي الآن ذاته تأكيد وزير الخارجية الروسي يوم الجمعة الماضي بأن الحديث عن أي تنازلات من روسيا في الملف السوري هو أمر مرفوض، ومن المؤكد أن لافروف لم يكن يبالغ، فمن الصعب تلاقي المشروعين الروسي والغربي ولو كان تلاقياً عند أهون الشرور، لأن هذا الأخير اختار المنازلة عبر لعبة شد الحبل فحسب، وربحه فيها يعني ببساطة إدخال روسيا طور الانحسار وصولاً إلى تفكك الاتحاد الروسي من جديد.
تبقى مسألة الانسحاب الأميركي الضاغطة على ترامب كما يبدو وعلى الرغم من أنها تتسق مع شعار «أميركا أولاً» الذي طرحه هذا الأخير، إلا أن الأكمة تخفي شيئاً آخر غير ذلك، فاستبدال القوات الأميركية بقوات عربية أمر في غاية الخطورة وهو سيؤدي إلى حالة غليان إقليمي من الصعب ضبطها، والغريب هو ما يقال عن رغبة مصرية في المشاركة بتلك القوات، فإذا ما كانت القاهرة تريد من جديد العودة إلى قيود التاريخ والجغرافيا، فالساحة السورية كلها مفتوحة أمامها لا أن تختار دور «الزائدة الدودية» التي باتت تهدد بانفجارها ولا بديل من استئصالها.
أمر آخر يمكن أن يقال هنا، هو أن الانسحاب الأميركي على إيجابيته، لكنه سيؤدي إلى زيادة التورط الإسرائيلي في الأزمة السورية، انطلاقاً من أن تل أبيب تشعر بقلق كبير جراء الوهن البادي على الأداء الأميركي في المنطقة بشكل عام، وفي سورية بشكل خاص، والحلول أمامها قد تكون أكثر خطورة من أسباب الأزمة نفسها، فضربات من نوع التي نفذت على مطار التيفور تهدد بنشوب حرب إقليمية على الرغم من تكاليفها الباهظة ومحاولات الكل تفاديها، إلا إذا كانت تل أبيب ترى إمكان التعويل على المشاكل الاقتصادية التي تعانيها إيران والتي دفعت بالتومان إلى أدنى درجاته على الإطلاق، وبذا تكون الفرصة، وفق هذه الرؤية الإسرائيلية، سانحة لتوجيه ضربة عسكرية، على الرغم من أن هكذا احتمال يبدو ضعيفاً، فحرب تموز 2006 أدخلت غرف صناعة القرار الإسرائيلي في دوامة الخوف المطلق وربما أضحت التركيبة الإسرائيلية غير قادرة على احتمال تكرار تلك التجربة.