الأدب يصنع النفس أم النفس تصنع الأدب؟
| د. رحيم هادي الشمخي
يمكننا أن نلاحظ وجود اهتمامات عديدة قديمة بالموضوعات النفسية في مجال الأدب داخل الأعمال الأدبية، حيث ظهر اهتمام الأدباء والنقّاد بالجوانب الخاصة بأنماط الشخصيات وسماتها، ودوافعها وانفعالاتها، وأفكارها، وسماتها، وقيمها، واهتماماتها، وتفاعلاتها، واتزانها، واضطرابها، ومثاليتها، وغير ذلك.
أما في مجال الدراسة النفسية للأدب من وجهة نظر علماء النفس أو المحللين النفسيين، فإن أغلبية الاهتمامات رغم قلتها، قد انصبت على المبدع دون القارئ، وعلى نوع إبداعي بعينه، غالباً ما كان هو الشعر، دون الأنواع الأخرى، وفي كثير من الأنواع كان المنحى التحليلي النفسي هو السائد والأغلب على هذه الدراسات، كذلك أرى الانشغال الزائد بالجوانب اللاشعورية في الدراسات التحليلية النفسية للأدب إلى المبالغة في الاهتمام بالجوانب المرضية والغريبة منه، وإلى هيمنة موضوعات بحثية قليلة تتعلق بالشخصية والخصائص الانفعالية والدافعية المميزة لها وإلى إهمال الجوانب الأكثر إيجابية وأكثر معرفية في الشخصية الإنسانية، رغم أن الأدب لا يمثل فقط الجوانب السالبة لدى الإنسان، بل يمثل إيضاح نجاح هذا الإنسان في علاج أزماته ومشقاته النفسية ويمثل نموه وتحقيقه لذاته وشعوره بالكفاءة والانتماء.
بعد قرون عدة ازداد اهتمام النقّاد والشعراء (الرومنطيقيين) بهذا الجانب النفسي في كتاباتهم حتى إننا نجد شاعراً مثل (وردزورث) يؤكد في مقدمة ديوانه (مواويل غنائية) وجود فروق في النوع وليس في الدرجة، بين الشاعر وغيره من البشر، فالشاعر في رأيه يكون (أكثر حساسية) وأكثر حماساً وأكثر رقة، ولديه معرفة أعظم من غيره بالطبيعة البشرية، كما أن روحه تكون أكثر اتساعاً وشمولاً وقدرة على التفكير.
في القرن العشرين ظهرت الاهتمامات بالدراسات النفسية للأدب، وظهرت كتابات (فرويد، ويونج، ووساخن، وجونز وغيرهم) في هذا الشأن، وقد تباينت استجابات نقّاد الأدب والفن وعلماء النفس إزاء ما قدمه التحليل النفسي، بين المؤيد تماماً لهذا الاتجاه، أو المعارض تماماً له، وبين هؤلاء وهؤلاء وقف البعض الثالث في مرحلة المنزلة بين المنزلتين، بين التأييد والمعارض، وخلال العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين بدا أن الإسهام التحليلي النفسي في ميدان الأدب، قد بدا يشحب بدرجة واضحة، وبدا الإسهام الخاص بما يسمى المنحى الموضوعي في دراسة الأدب يتزايد ويقدم إسهاماً متميزاً تلو الآخر، في العقد الأخير من ذلك القرن وما بعده بدا أن حالة السكون التي أصابت التحليل النفسي في هذا المجال قد انتهت، ومن ثم عاود هذا الاتجاه دراسة الأدب من خلال مفاهيم جديدة أو من خلال مفاهيم قديمة تم كشف الغطاء عنها، فاستخدمت بـأشكال بارعة جديدة، ومنها تحيداً، مفهوم الغرابة، وعلى المستوى العربي منذ زمن طويل اهتمامات واضحة من النقاد والأدباء بالبعد النفسي في الأدب، وقد تجلت هذه الاهتمامات في كتابات (عبد القاهر الجرجاني)، وخاصة في أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، ولدى (ابن قتيبة)، في الشعر والشعراء، ولدى الفارابي وابن مسكويه وإخوان الصفا، وحازم القرطاجني، وغيرهم، مقدمين إشارات وتصورات عديدة حول الإدراك والصور الذهنية والذاكرة والخيال والإبداع قد اعتبر (خلف الله أحمد) عام 1914 تاريخاً لميلاد فكرة الاهتمام العلمي بالبعد النفسي في الأدب، ففي ذلك العام حصل (طه حسين) على شهادة الدكتوراه في الأدب عن أبي العلاء المعري وورث في هذه الدراسة وغيرها من دراسات طه حسين إشارات واضحة إلى اهتمامه الملحوظ بالبعد النفسي في الأدب وتجلى ذلك أيضاً في كتبه (حافظ شوقي) و(مع المتنبي) ودراساته عن (بشار بن برد) وأبي تمام وغيرها.
ولهذا فإن العلاقة بين الأدب وعلم النفس لا تحتاج إلى إثبات وكل ما تدعو الحاجة إليه هو بيان هذه العلاقة وشرح عناصرها، وأن النفس تصنع الأدب، كذلك الأدب يصنع النفس.