ومضات عن الإبادة الأرمنية في مذكرات بعض المفكرين العرب السوريين
| نورا أريسيان
تناولت بعض مذكرات المفكرين والسياسيين العرب السوريين الذين عاصروا فترة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مسألة النزعة الطورانية، بالإضافة إلى الأصول اليهودية لأعضاء جمعية الاتحاد والترقي، والحالة السائدة بشكل عام، ونستطيع من خلال تلك الكتابات أن نؤكد أن السياسة الطورانية كانت تطبق على كل من ليس تركياً، وبالتالي نستشف مدى تشابه معاملة الأتراك للعرب والأرمن.
فقد بيّن الأديب والسياسي فخري البارودي (1889-1966) في مذكراته أن اليهود ألّفوا جمعية سرية أكثر أعضائها من اليهود المعروفين بالدونمة، وفسر معناها بأنه لقب يطلقه الأتراك على جماعة اليهود الذين هاجروا إلى تركيا وهم يتظاهرون بالإسلام مع احتفاظهم باطناً بالدين اليهودي(1).
كما تناول المجاهد فوزي القاوقجي (1890-1977) في مذكراته الأحزاب السياسية العربية وفرصة إنقاذ البلاد العربية، فكان يتحدث إلى القبائل لبث روح الثورة فيها، ويضيف قائلاً: «كنت أشعر من قوة الاتحاديين وغطرستهم وتظاهرهم بالفكرة الطورانية، وأخذ منهاج الاتحاديين ينكشف بإرسالهم الولاة والقواد العسكريين الترك القساة إلى الولايات العربية مزودين بالصلاحيات للقضاء التام على أحرار العرب وعلى الفكرة العربية»(2).
ومن جهته يوضح الأمير أمين أرسلان القنصل العام للدولة العثمانية في الأرجنتين في مذكراته رأيه بأنور باشا وطلعت باشا وجاهد وجاويد، بأن جلهم تنقصهم السياسة والعلم، ويقول: «لهذا لم يطل العهد حتى بدأت تظهر المنافسات والضغائن والأحقاد وسوء السياسة، فقد أغضب زعماء تركيا الفتاة اليونان، وأغضبوا الأرمن من أجل مذابح أضنة وأغضبوا العرب لإلغائهم اللغة العربية وإبدالها بالتركية»(3).
وعن الاتحاديين نقرأ في «مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى 1956» للطبيب الدكتور أحمد قدري (1893-1959) وهو من أوائل العاملين في الحركة العربية ومن مؤسسي «جمعية العربية الفتاة»، أنه لا تجد مقابل الاتحاديين إلا جماعات الأجناس كالروم والأرمن والعرب، متسائلاً إن كان العرب مثل الأرمن والروم. فيفسر أن الروم كلهم جماعة واحدة يرأسهم بطرك ربطوه بمجلسين روحاني وجسماني وهكذا الأرمن. وأن الروم والأرمن لهم جمعيات سياسية منظمة مرتبة غنية وليس للعرب مثل ذلك. وفي مكان آخر يشير إلى أن الأرمن هم آلة بيد روسية وسيحدث لهم في المبعوثية خطر قريب(4).
بالإشارة إلى مذكرات يوسف الحكيم (1879-1979) وكان تسلم رئاسة القلم لحكومة لبنان عام 1915، في تلك الفترة التي نقرؤها في كتابه «سورية والعهد العثماني»، وهو موجز عن آخر أدوار الدولة العثمانية وعن حوادث ما بعد الدستور، يضاف إلى ذلك ذكرياته المكتوبة في حينها عن سورية عامة واللاذقية خاصة؛ فيعبر عن مأساة الأرمن بالكلمات التالية: «وكانت نكبة أضنا وملحقاتها بعدوان الارتجاعيين أشد مما اقترفه إخوانهم في العاصمة والولايات الشرقية في الأناضول ولم تسلم من مثل هذا العدوان القرى المأهولة بأكثرية تركية وأقلية أرمنية في ولاية حلب»(5). ويحكي عن الباخرة من الأسطول الفرنسي التي تقدمت وراقبت جماعات الأرمن من رجال ونساء وأطفال في طريقهم وهم يفرون. وينقل صورة الواقع ونتائج تلك النكبة كما يسميها. فقد احتجت فرنسا على ما أصاب الأقليات الأرمنية من نكبات 31 آذار 1909 ولاسيما أهل بلدة كسب وعددهم لا يقل عن خمسة آلاف نفس، وأن حكومة اللاذقية ألـّفت لجنة للتحقيق في العدوان الواقع داخل منطقتها وتبيّن وقوع حوادث سلب. كما يصف يوسف الحكيم بالتفصيل كيف كانت العصابات التركية تقوم بالهجوم على الأرمن وتطلق النار من التلال المحيطة بالقرية وأن الأرمن بدؤوا بالرحيل والفرار، وكانت الباخرة الفرنسية تنير سبيلهم.
وأما عن رأيه بالأرمن الذين بقوا في اللاذقية فيقول: «وبقي أرمن كسب ضيوفاً في اللاذقية مدة سنة وقد ضمنتهم الحكومة بعنايتها وجمعيات الإحسان من وطنية محلية وفرنسية وأميركية. والجدير بالذكر أن كل من كان قادراً على العمل من هؤلاء اللاجئين شمَّر عن ساق الجد وأخذ يعمل بنشاط في مختلف المهن اليدوية ليأكلوا خبزهم بعرق جبينهم دون أن تمد يد واحد منهم للاستجداء»(6)، ويكتب بعد ذلك أن بطريرك الأرمن في سيس وأضنة وسورية ولبنان الكاثوليكوس إسحق، زار اللاذقية واستقبل بما يليق به من إكرام، وأعلن في الكنيسة شكره لأحرار الجيش وأهل اللاذقية على حسن معاملتهم لإخوانهم الأرمن.
لعل أهم مذكرات تناولت قضية إبادة الأرمن هي لعلاّمة الشام محمد كرد علي الذي يفضح هو الآخر في مذكراته سياسة الطورانية المتبعة ضد الأقليات ومنهم الأرمن. ويعد محمد كرد علي مفكراً استثنائياً في تطرقه الواسع لموضوع إبادة الأرمن في أعماله.
وفي كتابه «مذكرات» يتحدث تحت عنوان «الأرمن وارتحالهم» عن موضوع عدم تعرّب الأرمن في عهد الحكم العربي وتترّكهم في عهد الحكم التركي. ويشير إلى «رحيل بعض الأرمن الذين كانوا قد اعتصموا بالشام بعد الحرب العالمية الأولى ولقوا من حكومتها ومن أهلها كل عطف ورعاية، وكيف نادوا، يوم رحيلهم من قلوبهم مناداة المقِرّ بالجميل آسفين على مغادرة ديارهم»، فيقول: «نعم لقي الأرمن من الكثرة الغامرة ما عرف به العربي من كرم النفس ورعاية الغريب، فعدوا الشام وطنهم الثاني ومنهم من اغتنى في أرضنا بكده وجده، فما حسدناهم ولا مننا عليهم». وفي النهاية يذكر خصائل الأرمن فيقول: إنهم شعب ذكي لا ينكر الجميل ويفاخر مثل العرب بشرقيته(7).
أما في كتابه الآخر «خطط الشام»، فيطرح في جزئه الأول موضوع تهجير الأرمن بتفصيل أوسع. وفي مقطع بعنوان «المهاجرون والمحدثون اليهود والأرمن» يكتب عن نتائج المجازر على النحو التالي: «وكذلك يقال في مهاجرة الأرمن والروم في الشام، فقد قذفت الحوادث الأخيرة في قيليقية وأزمير نيفاً ومئة وثمانين ألف نسمة أكثرهم من الأرمن، نزلوا حلب ودمشق وبيروت وغيرها من البلدان الصغرى»(8).
ثم يطرح تساؤلاً حول مصير الأرمن المستقرين في سورية، إن كانوا سيستعربون كما تتـرّك أجدادهم في آسيا الصغرى، أم أنهم سيؤلفون كتلة جديدة وسط المجموع العربي الكبير؟
في هذا المؤلَف يشرح محمد كرد علي الحالة السيئة خلال فترة الحكم العثمانية، وقد لعب الألمان برأيه دوراً ملموساً في استعمال الوسائل الوحشية في معاملة الأجانب والعثمانيين معاً ومضايقة غير المسلمين من الأرمن والأروام ونصارى الشـام(9).
ويورد في كتاباته وهو على يقين أن العرب في سورية قد تعرضوا للتعذيب من قبل الأتراك وقاسوا أنواع الحرمان وهلكوا من الأمراض والجوع، ومشانق المفكرين وقتلهم شاهدة على ذلك. وكذلك يقارن كرد علي عملية إفناء الأرمن بمعاملة الأتراك للعرب، ويؤكد أن الأتراك أجلوا العرب وعاملوهم كما عاملوا الأرمن يوم أجلوهم عن أقاليمهم وقتلوهم عن بكرة أبيهم في الطرق، وأنهم سيغتالون العرب بالطرق نفسها التي اغتالوا بها أعداءهم الأرمن(10)، فلا مجال للشك في أن أساليب التعذيب المعتمدة تجاه العرب السوريين والأرمن كانت واحدة.
عند قراءة كتاباته نجد أن محمد كرد علي سجّل عمليات اضطهاد الأتراك للأرمن وأبدى وجهة نظره فيها، وفي سياق ذلك برهن على أن الأرمن تعرضوا إلى مجازر جماعية وتم تهجيرهم من ديارهم ليستقروا فيما بعد في الأراضي السورية. ويقول عن ذلك: «كانت الدولة العثمانية في السنة الأولى للحرب قد أجلت من الأناضول إلى الشام عشرات الألوف من الأرمن وأعملت فيهم السيف وقتلت منهم مئات الألوف بطرق مختلفة، فصدر أمر الحكومة العثمانية أن يقتل الأرمن قتلاً عاماً، ويقال إنه هلك فيه نحو مليون نسمة منهم، ومن لم تستطع الدولة قتلهم بعثت بهم إلى ديار العـرب رجاء أن تجد سـبيلاً لقتلهم»(11). وهو إذ يشير إلى أن إجلاء الألوف منهم إلى الشام كان يوعز بشكل خفي بقتلهم أيضاً، لافتاً إلى دور العرب السوريين في إيواء هؤلاء الأرمن المنكوبين وأن العرب أظهروا من الشيم والكرم ونصرة الضعيف ما فطرت عليه أخلاقهم فلم يمس الأرمن بأذى في الشام كلها، بما في ذلك المناطق الشرقية.
تلك ومضات عن الإبادة الأرمنية تم تدوينها في مذكرات المفكرين ورجال السياسة السوريين التي تعتبر مصادر تاريخية لا تقبل الدحض، وتثبت ما قام به الأتراك من مذابح وتهجير وإبادة وإفناء ضد الشعب الأرمني، وأكسبته مصداقية تاريخية أكبر.
الهوامش:
(1) فخري البارودي : ستون عاماً تتكلم ، مذكرات البارودي ، بيروت ، 1952 ، ص 77
(2) خيرية قاسمية : مذكرات فوزي القاوقجي ، بيروت ، 1975 ، ص 21
(3)الأمير أمين أرسلان : مذكرات الأمير أمين أرسلان ، بيونس أيرس 1934 ، ص 66
(4) الدكتور أحمد قدري : مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى 1956 ، دمشق 1993 ، ص 24
(5) يوسف الحكيم : سورية والعهد العثماني ، بيروت 1980 ص 178
(6) المصدر نفسه : ص 181
(7) محمد كرد علي : مذكرات ، دمشق 1951 ، الجزء الثالث ص 686
(8) محمد كرد علي : مذكرات ، الجزء الأول ص 32
(9) محمد كرد علي : خطط الشام ، بيروت 1969 الجزء الثالث ص 132
(10) المصدر نفسه … ص 139
(11) المصدر نفسه … ص 163