قضايا وآراء

حول نظرية المؤامرة

| يوسف جاد الحق

تطلع علينا أميركا و«إسرائيل»، إحداهما أو كلاهما معاً، من حين إلى حين، بمصطلح ما تقذف به إلى أجهزة الإعلام والتواصل، عالمية الانتشار، لكي تقوم هذه بالعمل على نشره ولفت الأنظار إليه، وبتكراره المكثف يغدو موضع تداول وأخذ ورد، ونقاش وجدل على أوسع نطاق لدى الرأي العام من جانب، وفي أوساط المثقفين والمهتمين بالشؤون العامة، من جانب آخر، وفي السياسة على نحو أخص.
لا يلبث هذا المصطلح طويلاً حتى يفعل فعله في التأثير في العقول والنفوس فيصبح مع مرور الوقت كالمسلمات التي لا قبل لأحد بالخروج عليها، أو التشكيك في محتواها ومؤداها وهدفها من دون التعرض لحملات من التشهير والتشويه، إلى حد إسباغ صفات الجهل والغباء والتخلف عليه، وما إلى ذلك من أوصاف يبرعون في اختلاقها، فضلاً عن تعميمها، وكأنها حق لا يأتيه الباطل من أي جهة كانت.
هذه المصطلحات التي يلقون بها في محيط الوطن العربي، وإلى جانبه الإسلامي، إيران مثلاً، لا تأتي من فراغ ومن غير فعل فاعل، إنما هي محصلة دراسات وأبحاث مستفيضة غايتها تحقيق أهداف معينة تقتضيها مصالحهم النفعية التي لا تأخذ في الحسبان قيماً أخلاقية، أو نوازع إنسانية كائنة ما تكون.
من هذا القبيل ذلك المصطلح الذي أطلق منذ سنوات قريبة ما سموه «بطلان نظرية المؤامرة»، أي إنه ليس هناك تآمر ولا مؤامرات، وإن ما يجري هنا وهناك من أحداث، وما يقع من المآسي والاعتداءات والحروب إنما يحدث تلقائياً نتيجة لأوضاع معينة في تلك البلاد تقع فيها هذه الكوارث، حتى هذا الذي سموه «الربيع العربي» الذي دمر المنطقة العربية وحطم الكثير من مقوماتها، وأباد كثير من أبنائها، هذا كله ليس وراءه مؤامرة ولا متآمرين!
لقد أمست هذه النظرية الشغل الشاغل في الأوساط الثقافية والسياسية وأدت إلى تشتت فكري وانقسام حاد بين المثقفين في كل مكان، فهنالك من هم معها وهنالك من هم ضدها، وهذا في حد ذاته كان واحداً من الأهداف المتوخاة وراء تعميم المصطلح لكي تضيع الحقيقة وتتشتت الآراء بما سوف يفضي إلى الخصام، وربما التقاتل والصدام في نهاية المطاف.
الذي حدث، من ثّم، هو أن الكثير من المثقفين والمفكرين والباحثين راحوا في لقاءاتهم، وفي ظهورهم على الشاشات، أو صفحات الجرائد يتنصلون منها بالإعلان، بمناسبة وغير مناسبة، عن «عدم إيمانهم بنظرية المؤامرة»! وكأن الاعتراف بها هو تهمة مشينة تدمغهم بالجهل والغباء، وما شابه ذلك.
لكأني بهؤلاء يريدون أن يصدقهم أحد بأن هذا الذي جرى على مدى قرن كامل مضى، وما انفك يجري حتى الساعة إنما هو وليد مصادفات عشوائية، أو كأن أناساً هبطوا إلينا من كوكب آخر يقومون به!
واقع الأمر هو أن المؤامرات تحيط بنا من كل جانب، وفي جلّ شؤوننا، أصحابها هم أعداء هذه الأمة القدامى والمحدثون، يريد لنا هؤلاء أن نصدق أن وعد بلفور وسايكس بيكو وانتداب بريطانيا على فلسطين الذي باركته وأقرته عصبة الأمم لإنجاز ذلك الوعد الذي تم تحققه عام 1948 بفضل هيئة الأمم المتحدة، لم يكن مؤامرة، وأن ما يجري اليوم، من المحيط إلى الخليج، وعلى دول غير عربية في الإقليم، لم يكن مؤامرة، وأن المسمى «الربيع العربي»، الذي أهلك الحرث والنسل وخرّب الديار، وأتى على آثار الحضارة العربية ومنجزات التاريخ فضلاً عن مقتل مئات الألوف من أبنائها، لم يكن مؤامرة، وأن مخططات برنار لويس والمحافظين الجدد وجورج بوش الأب والابن ودونالد رامسفيلد وديك تشيني وبول ولفتر وشارل بيرل وهنري بيار ليفي، أولئك جميعاً لم يكونوا صنّاع المؤامرات المتتالية ومبدعيها، وإذا لم يكن هذا كله مؤامرة، ومؤامرة عظمى ذات فصول متلاحقة، فكيف تكون المؤامرة؟ سؤال نوجهه إلى المرعوبين من المثقفين والمفكرين المحللين والإستراتيجيين السياسيين عباقرة هذا الزمان!
الهدف من وراء حملة نفي نظرية المؤامرة هو صرف الأذهان عن التفكير في أن هناك من يتآمر علينا اليوم، كما كان يفعل بالأمس، وكما سيواصل تآمره غداً، وإلى ما لا نهاية ما دامت «إسرائيل» قائمة في ديارنا.
التآمر الأميركي على العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، له اليوم ومنذ زمن بعيد، مدارس ومراكز أبحاث في أميركا والغرب لها أهداف معينة، منها ثلاثة أساسية إستراتيجية.
أولها: الهيمنة المستديمة على الوطن العربي بواسطة زعماء وساسة من أهله، يستجيبون للرغبات والتوجهات الأميركية، على حساب أوطانهم، مهمتهم، بل قل وظيفتهم، تسيير الأمور، وترتيب الأوضاع، وخلق الظروف في الاتجاه الذي يخدم مصالحهم ورؤاهم وأهواءهم.
ثانيها: استغلال الثروات الطبيعية من نفطية ومعدنية وآثار وأوابد مما تزخر به أرض العرب، لإفقارهم وتكديس الثروات عند الجانب المعادي لهم.
ثالثها: وهذا لا يقل أهمية عن سابقيه هو تأمين الوجود الإسرائيلي في المنطقة إلى أمد غير محدود، وجعل «إسرائيل» أقوى من سائر القوى العربية، منفردة أو مجتمعة، ذلك أن أمن «إسرائيل» كما يعلنون هم أنفسهم من أمن أميركا والغرب وبعض العرب!
المتآمرون إذاً يعملون على نفي صفة التآمر عنهم، وكشف ألاعيبهم، ما من شأنه إفشال مخططاتهم الإجرامية، والقضاء على تطلعاتهم المستقبلية لما ينبغي أن تكون عليه هذه المنطقة من وجهة أنظارهم، ومن هنا انطلق هؤلاء لصرف الأذهان عن ذلك إلى المراكز الإعلامية التي يملكون السيطرة والنفوذ على أهمها بإشاعة فكرة مؤداها أن من يعزو ما يجري في المنطقة راهناً، وما جرى فيما مضى إنما هو مغرض وجاهل في علم السياسة والحراك المجتمعي والعلاقات الدولية! والمؤسف أن هذه الحيلة انطلت على الكثير من ضيوف الفضائيات، ممن يحسبون على المثقفين العارفين بخبايا وخفايا الأمور، لنرى واحدهم فور ظهوره على إحداها يبادر من فوره إلى التنصل من كونه مؤمناً بنظرية المؤامرة كيلا تنطبق عليه تلك الأوصاف المشينة، ليحصل من ثم على شهادة حسن السلوك، وشهادة مفكر وباحث إستراتيجي وربما عالم في شؤون الكرة الأرضية وكواكب المجموعة الشمسية أيضاً!
هذا تحديداً هو الهدف من وراء النفي المسعور لنظرية المؤامرة، لكي يستمر المتآمرون في نسج خيوط تآمرهم من جهة، ولتمرير مؤامراتهم بيسر وسهولة من جهة ثانية، لكي تفعل فعلها المرتجى، وتؤتي ثمارها المتوخاة في نهاية المطاف.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن