دفاتري العتيقة
عصام داري :
لا تطلبي مني حساب حياتي إن الحديث يطول يا مولاتي!
كل العصور أنا بها… فكأنما عمري ملايين من السنوات
نزار قباني
العمر لا يقاس فقط بالسنوات، بل ربما بالتجارب والخبرة والحزن والسعادة، وأيضاً بما حصل الإنسان من علم وفن ومعارف متنوعة، وما قدم من خدمات لمجتمعه وناسه، وحتى للإنسانية.
أشعر هذه الأيام أن عمري آلاف السنوات، ففي دفاتري العتيقة أقرأ مذكراتي عندما كنت من أهل العصر الحجري، وقتها كنت أذهب إلى الغابة كي أصطاد فريسة تسد رمقي عدة أيام، وكنت أعرف أنني قد أخسر المعركة ولن أعود إلى كهفي – الذي هو بيتي آنذاك – ومن يوقن اليوم أنه سيعود إلى بيته – كهفه – سالما ولا يحصده صاروخ أعمى، أو قذيفة هاون طائشة تنهي مشواره في الدنيا الفانية؟!.
كنت من المدافعين عن الشام عندما كان السومريون والبابليون والأكاديون والآشوريون وغيرهم يغيرون علينا، وعند انتصارهم كان ملوكهم يطلقون على أنفسهم صفة «ملك الجهات الأربع» فكانت الشام هي درة ذلك العالم، وإذا لم تصل خيولهم إلى دمشق فلن تكون مملكتهم مكتملة وحقيقية.
كانت تحدث مجازر ومذابح يذهب ضحيتها خلق كثير، لكنني لم أشهد طوال تلك العصور والممالك ما يمكن أن يشبه ما يجري هذه الأيام في الممالك نفسها التي لم تقدم للعالم والتاريخ الحروب فقط، بل قدمت أول أبجدية وأول نوتة موسيقية وأول عاصمة لدولة الشام، وزرعت أول حبة حنطة، واكتشفت أول صباغ، وتم نسج أول رداء يستر العورات، ويرد عن الإنسان البرد والحر.
على مر التاريخ، أو آلاف السنوات التي عشتها، لم أصب بالنبال، أو أطعن بالخنجر، أو يستل أحد الحجاب والأجراء سيفه ليوجهه لنحري لمجرد أنه تصادف وجودي في مرمى سهامه!! لم يحدث أبداً وكنت أظن أنه لن يحدث!.
في دفتري العتيق أقرأ ما دونته عندما ذهبت مع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، المعروف بصقر قريش، إلى بلاد اسمها اليوم إسبانيا وأطلقنا عليها اسم الأندلس، فكانت مركز إشعاع علمي وفكري أضاء عتمة أوروبا، وأذكر أيضاً آخر الحكام الأمويين للأندلس أبو عبد اللـه الصغير الذي بكى وهو يلقي النظرة الأخيرة على غرناطة فقالت والدته المعروفة باسم عائشة الحرة جملتها الشهيرة: «أجل فلتبكِ كالنساء ملكا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال».
أعترف أنني تعبت من القراءة في دفاتري العتيقة، لكن عذري أنني تعبت أكثر من الكتابة على دفاتر جديدة، لأنني أريد صفحاتها بيضاء لا أن ألوثها بحبر فاسد وأخبار حزينة، وتبعث الغضب أحياناً، والغضب يولد صدامات واشتباكات بالكلام والأيدي وأخيراً بكل صنوف الأسلحة، ونحن في غنى عن حروب إضافية صغيرة يصنعها الصغار، ويقع فيها الكبار، ونتائجها تكون كارثية إذا لم يتدخل العقل والمنطق ونغلب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.
هذا ما كان في عصور الظلام حيث سادت شريعة الغاب، والعياذ بالله، لكننا ركبنا قطار الزمن ووصلنا إلى هذا العصر فهل سنجد الأمن والأمان في آخر الزمان؟.. أقول قولي هذا وأستغفر اللهّ!.