قضايا وآراء

سورية والعالم القادم

| مازن بلال

تكتشف فرنسا بشكل متأخر أنها أنتجت خرائط للشرق الأوسط المنتهية الصلاحية، فهي خرجت مع شركائها البريطانيين من حلبة المنافسة الدولية بعد العدوان الثلاثي عام 1956، وتركت وراءها كل خرائط اتفاقية سان ريمون قائمة، ورغم أن عالم الأزمات الذي خلفته هذه الخرائط بعد الحرب العالمية الثانية كان أمرا متوقعا بالنسبة لباريس، لكن ما هو خارج التوقعات أن العلاقات بين دول شرقي المتوسط يمكن أن تتحول إلى محاور كالتي نشهدها اليوم، فالصراعات حولت جغرافية سايكس– بيكو إلى نقطة «مستحيلة» تستنفد الأدوار الإقليمية والدولية.
مراجعة الخرائط بالنسبة لفرنسا تظهر اليوم في الرعونة التاريخية لسياستها التي يلخصها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فسياسة باريس منذ بداية الأزمة السورية كانت «انقلابية» على السياسة السورية، لكنها لم تكن تسعى لتحولات كبرى؛ فاهتماماتها انصبت على إنتاج نخبة سياسية جديدة لا تتعدى الشكل الذي كان قائما بعد مرحلة الاستقلال، وعبر رعايتها لـ«المجلس الوطني السوري» رسمت مسارا لإنتاج حلقة سياسية سورية تضمن نفوذا فرنسيا جديدا في المنطقة، لكن هذه النخبة التي جهزتها فرنسا اصطدمت بشكل عنيف بكل التكوين السياسي المتراكم على الأرض السورية، والأهم أنها قادت السياسة الفرنسية لهزيمة تشبه خروجها من المنطقة عام 1956 عندما ابتلعت دول الخليج «المجلس الوطني السوري» عبر هيكلية سياسية مختلفة.
عمليا فإن الرئيس ماكرون يبحث عن التحول الأكثر تطرفا في سورية، ودخوله في معركة مباشرة عبر المشاركة في الاعتداء على سورية؛ يوضح أن مرحلة المخاض في السياسة الفرنسية منذ رفضها الشهير في مجلس الأمن الاعتداء على العراق انتهت، وزيارة ماكرون الأخيرة إلى واشنطن التي انصبت حول مسألة الاتفاق النووي الإيراني ليست بعيدة عن هذا الأمر، ففرنسا أيضا تملك سجلا من الإخفاقات في مسألة العلاقة مع إيران، ابتداء من استضافتها للإمام الخميني وانتهاء بتزويدها العراق بطائرات «سوبر اتندار» وصواريخ «إكزوسيت» خلال الحرب العراقية الإيرانية.
ما تسعى إليه فرنسا اليوم ليس ارتباطا بالسياسة الأميركية، وسياسة الرئيس ماكرون بالنسبة لسورية ليست مجرد نزوة لرئيس مرتبط باللوبي المالي الدولي، بل هي تعبير عن أزمة عميقة للسياسات الأوروبية داخل تقلبات النظام الدولي، ففرنسا مستعدة للوجود العسكري المباشر في سورية لخلق التحول العنيف على الخرائط التي أنتجتها مع شريكها البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتأكيد فإن دورها في سورية اليوم لن يحدد موقعها من أي نظام دولي قادم، لكنه يوضح أنها موجودة على مقلب مختلف، وهي تريد جر أوروبا بأكملها لإغراق المحاور «الناقصة» في الشرق الأوسط، فالدور «الوسطي» الذي ظهر فيه «الإليزيه» خلال الحرب الباردة وبعد الأزمة الجزائرية ينتهي اليوم في سورية بشكل دراماتيكي.
فرنسا في حقبة الرئيس ماكرون تريد جر أوروبا لمساحة مختلفة في مسألة تشكل العالم، ومن سورية على وجه التحديد؛ حيث لا تستطيع باريس إصلاح الأخطاء التاريخية لكل نتائج الحرب العالمية الأولى، فتدخل على مساحة من التفكير الأميركي لشرق أوسط ليس مولدا للصراعات فقط، بل جبهة اشتباك نمطية لأبعد الحدود بين آسيا وأوروبا، فانهيار الخرائط الحالية لا يعني سوى مسألة واحدة هي عودة الصراع التقليدي بين الشرق القديم وأوروبا بشكل كلاسيكي، وربما تستحضر باريس حملات محمد علي على سورية والأزمة التي نشأت وأدت لتدخل روسي، وذلك قبل تشكل الخرائط الحالية، فالعالم القادم بالنسبة لسورية ومن وجهة نظر فرنسية على الأقل هو أن تبقى جغرافيتها جبهة بين عالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن