ثقافة وفن

في الغربة لا تكن ليناً فتعصر.. الاعتزاز بسوريتك له رونق آخر.. حيث يسقط كل شيء إلا هي

| وسام حمود- السويد

للمرة الألف تشحن نفسك بهالات إيجابية وتقرر بينك وبين نفسك أن تكون قاسيا كي تستمر عجلة الحياة من دون أن تنكسر..
هذا الخطاب تسمعه كل يوم على لسان الكثير من السوريين الذين لم يعتادوا الغربة ، والذين ظنوا أنهم ملاقو النعيم بعيدا عن بلادهم ، وأن أجنحة الأمل ستطوقهم وسيجدون كل ما تتمناه النفس من رغبات.
قد يعتقد البعض أني لست سوى ناقلة للفاجعة البشرية في أوروبا ، وأني أصدر خيبات الأمل للقارئ العربي، وأن كل حروفي ما هي إلا نتاج أزمة نفسية ، ولكني وبكل أمانة ورؤية بصرية حادة أرى أن كل واحد فينا بات مخزونا للعلل والأوجاع التي لم يتم اختبارها من قبل.

هنا أنت لست ملك نفسك، أنت ملك للآخر الذي يعطيك قوت يومك مقابل أن تعود طالبا على مقاعد الدراسة، فاللغة هي حتما مفتاح أي بلد تعيش فيه، ولكن بين قوسين أنت لا يمكنك أن تأكل أو تشرب إن لم تكن منضبطا وملتزما بالساعات التي حددت لك وراء مقعدك وكتبك..
هناك من تجاوز اللغة واستلم المفتاح وبدأ رحلة البحث عن العمل، ومع ذلك لا تتوقف الشكوى العربية، فحين تعمل يقتطع من دخلك الشهري ثلاثون بالمئة ضريبة، فتبدأ الحسابات..
هنا الهموم لا تشبه همومنا في دمشق، لها طعم يشبه حبة البنادول حين تتناولها من دون ماء، فنهارك ليس كسابقه لا تقدر على القيام بأكثر من مهمتين في يوم واحد، فأنت تشعر بهيمنة الوهن على جسدك، بينما هناك كنا نقضي يومنا في إنهاء كتلة من المهمات التي لا تنتهي، وتسأل عن السبب من دون الوصول لجواب شاف.
هنا أن تكون لينا يعني أن تعصر، ومن يعصرك هو ابن جلدتك، نعم، المال يتكلم، والطمع سيد الموقف، ولا تعلم لم، النفوس هنا لا تشبه النفوس هناك لهذا الحد، ولا نريد الاسترسال بكم، الاستغلال من أبناء البلد الواحد كي لا نتهم بإثارة النعرات، ونترك القصص للقادم، فكل شيء سيطفو على السطح.

السوريون حديث العالم
أكلتوا الجو.. مصطلح عامي للدلالة على السيطرة.
خربتوا الدنيا، أيضا مصطلح عامي للدلالة على إثبات الوجود.
السوري طالع يأكل، نازل يأكل، مصطلح عامي للدلالة على المكاسب والرزق.
هذا ما يوصف به السوريون في أوروبا، إنجازات على أرض الواقع، إتقان للغة في زمن قياسي، الاندماج في المجتمعات الأخرى بأقصى سرعة، تأسيس شركات، ومؤسسات، ومطاعم، ومقاه، في السلك التعليمي، أطباء، وغيره من المجالات الأخرى المتاحة أمامه ليكون عنصرا فاعلا وليس عالة على مجتمعات الغرب.
كل ذلك جعل السوري حديث الساعة، ورواية ليالي السمر، سنوات ليست طويلة جبلوا فيها قوة، وإرادة، وتصميماً، تجاوزوا حدود الغربة رغم غصة الفراق، وألم الوداع.. ناهيك عن صفحات التواصل الاجتماعي التي باتت تعج بالأسواق السورية، حين تتصفح المواقع تجد انك لست مضطرا للتسوق فكل ما تريده تجده عند تلك الصفحة وغيرها.
حين حرم السوري من خيرات بلاده لم يعجز، فالجبن البلدي، والحلويات السورية، سيدة السوق بكل امتياز، إضافة لكل ما يخطر في بالك من مأكولات أخرى..
هنا واجه أزمة القادمين الجدد، وهكذا يطلق عليهم اليوم، والقادمون القدماء يرون أن حالهم بات صعبا، فغيرهم جاء بأفكار وإبداعات وطاقات لفتت انتباه الآخر الغربي لها، وبدأ يتعامل معهم كشركاء في كثير من الأمور، فالغرب يعشق الإبداع والتفوق والتميز، ويكون سعيدا حين يشعر انك قادر على كسب رزقك بنفسك من دون الحاجة لمساعدته، وهذا ما أفسح المجال أمام العديد من الجهات الرسمية الغربية في السويد على سبيل المثال لدعم الكثير من المشاريع الخلاقة والمهمة.
سورية وأفتخر.
هنا فقط الاعتزاز بسوريتك له رونق آخر، هنا تسقط الطائفية، والمذاهب، والديانات التي تسعى كل أطراف الأرض لزرعها في بلادنا، هنا تفرح لنجاح سوري، وتحزن لإخفاقه، هنا تشعر من أعماق قلبك أنه واجب عليك أكثر من ذي قبل مناصرة ابن البلد أكثر من أي يوم آخر.
هناك الكثير من المؤيدين، وكثير من المعارضين، يتواجهون ويتصادمون في المواقف السياسية المتخبطة، وحين يحق الحق ترمى النقاشات السامة، لتتحد النفوس أمام موقف صعب، وكي نتسم ببعض الواقعية لا يخلو الأمر من الشوائب.
في الغربة الحرف العربي الذي ينطق على أرصفة الشوارع يجعلك تلتفت لتنظر إلى صاحبه وترمي له ابتسامة المتسول الجائع لكلمة (مو) فهي كلمة السر في سوريتي، فترمي عليه نظرة جائع لحضن الوطن.
في الغربة حديث السوريين في الباصات يعيد نفسه كما كان في السرافيس التي تمر في حارات دمشق، حكايات طويلة تحمل هموم أصحابها، وألمها، وأخبار سورية، والوجع لا يحتاج شرحا فهو مع كل آه ونبرة حرف.
في الغربة.. نتلفت في الشوارع بحثا عن وجه نعرفه ربما إذا توقفنا معه لدقيقة نغسل بعضا من قهر.
في الغربة نتلمس أخبار بلدنا ليس كما كنا فيها، فكل خبر يجعل القلب يرتجف وكأن نبضه الأخير على وشك الصمت.. في الغربة كل ألوان السماء تعتصرنا، وكل أشكال الفصول تجلد فينا، فهي لا تحمل شمسا كشمس بلادي، ولا تهبنا رائحة أول مطرة على الأرض هنا الأرض رطبة دوما، مقلقة، هنا الأرصفة أجمل من أرصفتنا، والشوارع أكثر نظافة، وترتيبا وأناقة، ولكن لم نرم عليها قصص الحب، والفراق، بصحبة الأحبة، والأصدقاء، هنا تفتقد للذاكرة.
في الغربة أصبحت ذاكرتنا معطوبة، متجمدة، والصور الجديدة لا تجد لها مكانا، فالذاكرة ممتلئة بدمشق ولا مكان لعشق آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن