قضايا وآراء

عندما يذوب الجليد

| عبد المنعم علي عيسى

لا عداء يمكن له أن يفوق ذلك الذي ينشأ بين شقيقين إذا ما تبرعم رشيم الشقاق ليأخذ حيزا داخل فلقتي الحبة، وربما كانت القاعدة السابقة تنطبق أكثر ما تنطبق على علاقة الكوريتين ببعضهما البعض، فالبلدان خاضا حربا استمرت ثلاث سنوات وقد سقط فيها خمسة ملايين قتيل ثم راحت الايدولوجيا تقيم سداً بين البلدين تلتها السياسة والاقتصاد والثقافة وكل منها راح يفعل فعله أيضا في سياق بدا مأزوما ويصعب إيجاد نقاط تلاق فيه.
سبق أن شهدت العلاقة بين البلدين قمتين سابقتين في العام 2000 و2007 إلا أنه ما كانتا تقنيتان بشكل محض، بمعنى أن ظروفا محددة هي التي فرضت حدوثهما، وهما لم ينجحا ولم يكن بين أهدافهما كسر جبل الجليد الذي راكمته السنون، وبهذا المعنى فان قمة «بانمونغوم» يوم الجمعة الماضية تعتبر من الناحية العملية هي القمة الأولى منذ انتهاء الحرب الكورية 1953.
لم يكن ممكنا لأي شخص أن يراهن على تقارب الكوريتين حتى اليوم الأخير من العام المنصرم، لكن مع مطلع العام الحالي بدأت تلوح في الأفق نذر تلاق تملك فرصة للنجاح، وسرعان ما تكاثفت غيومها التي لا تزال الآمال بها قائمة في أن تجيء بالمطر، والسؤال هنا هو لماذا اندفعت بيونغ يانغ إلى ما ذهبت إليه؟
أطلق الزعيم الكوري الديمقراطي في مطلع كانون الثاني الماضي دعوة للتهدئة مع كوريا الجنوبية، ثم تعمدت الدبلوماسية الشمالية المبالغة في إشارات الغزل إبان دورة الألعاب الاولمبية الشتوية التي استضافتها سيؤول في شباط الماضي، وفي الغضون كانت بيونغ يانغ تخطب ود واشنطن كشرط أساسي لنجاح أي تلاق مع الجارة الجنوبية في ظل الشراكة القائمة بينها وبين واشنطن منذ أن أضحت كيانا مستقلا مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، هذه التحولات كانت لها العديد من التفسيرات ففي 12 شباط الماضي قال وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون إن العقوبات الاقتصادية على كوريا الديمقراطية قد حققت نتائج ايجابية بأسرع مما هو متوقع لها، وربما كان هذا التفسير السابق صحيحا إلى درجة بعيدة، أو أنه كان الأرضية الصلبة التي ارتكز عليها التحول الكوري إلا أنه لم يكن يمثل كامل الصورة بالتأكيد، فقد سبق لهذه الأخيرة أن مرت بأزمات اقتصادية أكبر من هذه التي تمر بها الآن، وقبل سنوات ذكرت وكالة «رويترز» أن كوريا الديمقراطية سبق وان عانت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي أزمة اقتصادية بعد انهيار الحليف السوفييتي وقد حصدت تلك الأزمة ثلاثة ملايين من الضحايا، وإذا ما استعنا بمنظار آخر يقول خبراء صينيون قبل أسبوعين إن صور الأقمار الصناعية تؤكد أن موقع «رينغي ري» الذي تستخدمه كوريا لإجراء تجاربها النووية قد شهد انهيارا كبيرا كان من شأنه حدوث انخساف في طبقات الأرض، خصوصا بعد أيلول الماضي الذي شهد إجراء تجربة للقنبلة الهيدروجينية، ويضيف هؤلاء أن هذا السبب الأخير هو الذي يقف وراء التحول الكوري الحاصل، في ظل العجز عن ترميم أو بناء آخر بديل للموقع المنهار جراء حدة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وإذا ما كانت تقديرات رئيس CIA مايك بومبيو ووزير الخارجية الحالي الذي زار كوريا الشمالية سراً أواخر شهر آذار الماضي حين قال: إن البرنامج النووي الكوري غير مكتمل وبيونغ يانغ كانت على مسافة بضعة أشهر لكي تتمكن من شن هجوم نووي على الولايات المتحدة الأميركية، إذا ما صدقت تلك الرؤيا عندها يتأكد أن البرنامج الكوري النووي قد اعترضته موانع تقنية مالية مشتركة كان من الصعب إيجاد حلول لها، وعندها تقرر استثمار اللحظة الراهنة، أما كيف فهو ما يمكن أن يساعد به قول وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بأن بيونغ يانغ لن تستطيع دق إسفين بين واشنطن وسيؤول، أي بمعنى آخر عند مواجهة صعوبات تبدو مستحيلة الحل تبنى صانع القرار السياسي الكوري فكرة اجتذاب الجارة الشقيقة وتحويلها إلى رئة جديدة بعدما فقدت الرئة الصينية، على الرغم من صعوبة ذلك الرهان وخطورته فسيؤول تريد لكي تطمئن نزع سلاح الجارة النووي وتفكيك برنامجها الصاروخي، فالسلام لا تصنعه النيّات الحسنة وإنما يصنعه تلبية احتياجاته، على حين الخطورة تتأتى من أن الانفتاح ما بين البلدين سوف يكشف للإنسان العادي مدى الفارق الكبير في درجة التطور ما بين البلدين وهو أمر قد تكون له مفاعيله السلبية، لكن في النهاية يبقى الحفاظ على الوجود ككيان وشعب ونظام هو أولى الأولويات لهذا الأخير، وإذا ما كان الشعب الكوري يتناول اليوم «الانجوغوغي» التي تعني البديل الصناعي للحم فان المرحلة المقبلة قد تشهد غياب هذا البديل تماماً، وعندها سيصبح الخيار الوحيد أمام بيونغ يانغ هو الحرب لكسر الحصار، وهو ما لم ترد هذه الأخيرة الوصول إليه، ثم إن نزع السلاح النووي والصاروخي يعني زوالهما من الطبيعة لكن من يستطيع نزعهما من العقول التي أوجدتهما.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن