تهديد باتساع دائرة الحريق السوري
| عبد المنعم علي عيسى
قصد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعلان نيته الانسحاب من سورية الذي جرى للمرة الأولى أمام تجمع في أوهايو يوم 29 من شهر آذار الماضي خلق حالة اهتزاز جيوسياسية كعلاج إسعافي لاختلال ميزان القوى في الداخل السوري بعدما استعادت دمشق أجنحتها التي أجهدها القيد منذ تموز في العام 2012، وهو يهدف من ورائها إلى إجبار حلفائه الغربيين بما فيهم إسرائيل على الزج بقواهم في الحرب السورية التي خرجت بمفهوم غرف العمليات عن التحكم الأميركي منذ مطلع العام الجاري، وعلى الفور كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أول من التقط الإشارة وأول من امتلك الاستعداد للتجاوب معها، وهو لم يضع الوقت فسارع إلى واشنطن لبحث حدود المظلة الأميركية والى أين يمكن أن تصل، ثم إلى أي حد سوف تدعم صداما مع موسكو في سورية، ظهر ماكرون في زيارته إلى واشنطن في الرابع والعشرين من نيسان الماضي وكأنه يحمل الأفكار نفسها التي كان يحملها الجنرال غورو وهو على مشارف ميسلون فيما يخص الأزمة السورية، في حين ظهر حاملاً لأفكار شارل ديغول عشية قراره الموافقة على استقلال الجزائر العام 1962 فيما يخص الأزمة الغربية مع إيران.
كان في جعبة ماكرون الكثير، إلا أن أهم ما جاء فيها في الشأن السوري هو التعبير عن استعداد باريس للعب دور رأس حربة غربي إذا ما كان لزاما على واشنطن سحب قواتها من الشرق السوري، لكنة طلب التريث لبعض الوقت ريثما يتمكن اللاعب الفرنسي من اللحاق بنظيره الأميركي لمسك العصا في سباق التتابع الحاصل، وربما كان هذا الطلب الأخير قد لقي قبولا لدى ترامب وهو ما يتأكد عبر الوقائع، فقد ذكرت وكالة الأناضول التركية يوم 28 نيسان أن قوات فرنسية قد وصلت إلى قاعدة الرميلان شرق مدينة الحسكة التي تسيطر عليها القوات الأميركية.
هذا السلوك الفرنسي يعني أن باريس تريد الانخراط في مناطق خفض التصعيد بل التخصص بواحدة منها أسوة بالآخرين، بعدما كان ذلك المسار قد اقفل بوجهها عندما رفضت الدول «الضامنة» طلب الرئيس الفرنسي بحضور قمة أنقرة منتصف آذار الماضي وفق ما أعلنه وزير الخارجية التركي الأسبوع الماضي، وفي الغضون تستشعر تل أبيب خطرا محدقا طغى بشكل صارخ على ديبلوماسيتها خلال الشهرين الماضيين، وهو متولد عن قرار واشنطن الانسحاب من سورية، وهو الأمر الذي يضطرها إلى تغييرات كبرى في علاقاتها بل تحالفاتها أيضاً، فهي ستجد نفسها في ظل سورية بلا أميركيين مضطرة للاستناد شيئا فشيئا في مسائل تخص أمنها على علاقتها مع روسيا بدرجة كبيرة، وهو ما سيرخي بظلاله الثقيلة على شبكة العلاقات الإقليمية والدولية المؤثرة في الحرب السورية وسبل إيجاد تسوية سياسية لها.
يمثل البديل الذي طرحته وربما اعتمدته واشنطن لوجودها في الشرق السوري دخولا للحرب السورية في مرحلة جديدة تزداد فيها تعقيدا وهي من شأنها إطالة عمرها، فالمطروح هو إرسال قوات عربية «سنية» يمكن أن تكون مصرية مطعمة بخليجية، وأخرى أردنية يمكن أن تتجه نحو الجنوب، والمعلن أن الأولى إنما تهدف إلى إحداث انقطاع في الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى بيروت، فيما الثانية تهدف إلى إنشاء منطقة عازلة على الجبهة السورية تخلو من الخطر الإيراني، إلا أن غير المعلن هو أن واشنطن أضحت مصرة وربما أكثر من أي وقت مضى على إنشاء «صيغة سياسية» في الشرق السوري تكون شبيهة بتلك التي شهدها شمال العراق في أعقاب الغزو الأميركي العام 2003، وربما كان خير دليل على ذلك هو أن واشنطن عادت إلى تقديم الدعم إلى الوحدات الكردية بشتى أنواعه بعدما كانت قد أعلنت عن تجميد هكذا خيار قبل ما يزيد على ستة أشهر، فأن تقوم هذه الأخيرة بدعم الأكراد مع التخلي عن دعم باقي فصائل المعارضة فهذا دليل قاطع على أنها تعمل على صنع خنجر جغرافي يصيب في الظاهر أقصى الشرق السوري لكنه عمليا سيطعن في قلب «المعدة» السورية لإنتاج كيان سوري جديد وهزيل محكومة سياساته بقدرات ضعيفة، ولا ننسى ان دمشق كانت قد استطاعت تحرير قرارها السياسي خلال العقود الماضية عبر تحقيق الاكتفاء الذاتي في سلتها الغذائية وحتى قبيل اندلاع الأزمة السورية كانت دمشق هي من بين أقل دول العالم مديونية، وهو ما عبرت واشنطن عن ضيقها منة عبر سؤال وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت للرئيس الراحل حافظ الأسد في العام 1996 حين قالت: «أنتم لماذا لا تطلبون قروضا منا أو مساعدات»؟ أما في الجنوب فالهدف من استقدام قوات أردنية يصبح فصل الجبهتين السورية واللبنانية عن بعضهما البعض بعدما تحققت عمليا حالة ربط لوجستي فاعلة بينهما وقد شكلت حالة مقلقة لتل أبيب حتى إذا تم تزويد الجيش السوري بمنظومة إس 300 وفق ما أعلن عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أعقاب العدوان الثلاثي، أضحى ميزان القوى مقلقا على كلتا الجبهتين، والكثير من الارتباك الإسرائيلي الواضح يؤكد أن تل أبيب ترى أن ميزان القوى العسكري الذي كان قائما لم يعد هو نفسه الآن، ومما يجدر ذكره هنا أن تل أبيب كانت قد فهمت إعلان لافروف عن انتفاء الالتزام الأخلاقي بعدم تزويد دمشق بتلك المنظومة على انه رسالة روسية إليها تريد القول إن موسكو ليست بوارد القيام بدور الشرطي القائم على تقييد الحركة الإيرانية في سورية، والعلاقة مع طهران هي ليست واهنة كما يشاع فموسكو تدرك أن من المستحيل عليها الإمساك ببؤر التوتر العديدة في الداخل السوري دون دور إسنادي إيراني لا يمكن المساومة عليه، بعكس العلاقة مع انقرة التي لم تفوت فرصة يمكن استغلالها لمغازلة واشنطن إلا وتمسكت بها بكل ما تستطيع وآخرها كان قد ظهر في لقاء وزير خارجيتها مع نظيرة الأميركي مايك بومبيو على هامش اجتماعات الأطلسي في بروكسل يوم الجمعة الماضي فقد أعلن مولود جاويش أوغلو أن بلاده قد تقيّم عروضا جديدة من الحلفاء لتزويدها بصواريخ باتريوت أو منظومات دفاع جوي جديدة.
وسط هذه الأعاصير لا ترى موسكو بديلا من لعب دور كاسحة ألغام لا تمل، وهي تضع في اعتبارها أن الغرب لا يزال يملك الكثير من الأوراق الضاغطة وهي تبدأ بالملف الكيميائي السوري ولا تنتهي بالملف الإنساني اللذين يستخدمان اليوم لتقويض التسوية السورية، فيما تبدي هذه الأيام قلقا متزايدا تجاه مخاطر التقسيم التي تطل برأسها من جديد، فالغرب يمكن له ان يذهب إلى فرض التقسيم كأمر واقع وان لم يحظ هذا الأمر بشرعنة دولية، على الرغم من ضعف احتمالات نجاح هكذا سيناريوهات التي تتطلب حدوث توافقات شبيهة بتلك التي أنتجت اتفاق سايكس بيكو 1916 الذي اثبت صلابته على امتداد قرن كامل ولم تنجح أي من محاولات اختراقه بدءا من محاولة ضم العراق للكويت العام 1990 ومرورا بمحاولات استقلال الساقية الحمراء عن المغرب وصولاً إلى فشل محاولة داعش في إلغاء الحدود السورية العراقية العام 2014 وآخرها فشل سيناريو انفصال كردستان العراق في أيلول 2017، في حين ان انفصال جنوب السودان عن شماله منتصف العام 2011 لم يكن بالمعنى السياسي خرقا لذلك الاتفاق لاعتبارات ديموغرافية وثقافية، ثم إن ذاك «الخرق» حدث في منطقة هامشية وطرفية لا تأثير لها على التوازنات القائمة في الشرق الأوسط.
يطل شهر أيار لاهباً وهو سيشهد الكثير من الأحداث التي ستكون كما صب الزيت على نار متقدة، ففيه ستجري الانتخابات اللبنانية وكذا العراقية، وكذا سيتم نقل السفارة الأميركية إلى القدس بالتزامن مع إمكان إلغاء الاتفاق النووي الإيراني، كما سيشهد قمة أميركية كورية قيل إنها ستعقد في منغوليا أو سنغافورة وفقا لطلب الزعيم الكوري الديمقراطي، كيم جونغ أون، لكن اللافت هو إعلان موسكو عن عقد الجولة التاسعة من «إستانا» في التاسع من الشهر نفسه في مؤشر يؤكد أنها أدارت ظهرها لرسائل عدوان الرابع عشر من نيسان على دمشق.