ثقافة وفن

يستبد بأبنائنا الأرق

| إسماعيل مروة

مرت أوقات منذ عقود شهدناها، تأتي فيها المبتكرات، ونعجز عن إيجاد مسميات لها، ناهيك عن عجزنا على استيعابها، وما تزال في الذاكرة صورة علماء الدين الذين وقفوا في مواجهة هذه المبتكرات، من دون أن يكون عندهم أي حل يمكن أن يكون مفيداً وناجزاً ومنجزاً، ولم يلتفت المجتمع إلى إيجاد منظومة متكاملة اجتماعية للاستيعاب والاستفادة، فبقي هؤلاء يقاومون التلفزيون ويصفونه بالفساد، وفي معركتهم الوهمية ضده انتقل الأمر إلى الفيديو قبل أن تنتهي معركتهم، ثم وصلت إلى الصحون اللاقطة، ثم تتابعت إلى الفلوبي الذي كان ثورة، ومن ثم إلى السيديات، ثم الفلاشات، وترافق ذلك كله مع ثورة الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي، وكل ذلك لم يجد بيئة جيدة لاستقباله، ومع الهواتف الذكية اختلف الموضوع بصورة جذرية، ولم يعد واحدنا بحاجة إلى حاسب وما شابه.. أقول هذا لأن المنظومات العلمية والاجتماعية العربية لم تفعل شيئاً حيال هذه الطفرة التقانية، التي يحلو لكثيرين أن يقولوا عنها: هجمة، وهي ليست كذلك فالإنجاز العلمي يستفاد منه في البلدان التي ابتكرته، ولم يكن الابتكار كما يتوهم كثيرون لينال منا ومن قيمنا ومن أخلاقنا المهزوزة أصلاً.. ولسنا في بؤرة اهتمامهم من الناحية التقانية، ومع ذلك تراكمت الاختراعات ولم نستطع أن نفعل حيالها أي شيء!
واليوم في العاصفة التي تجتاح البلدان العربية من فوضى وتخبط وحروب كان لوسائل التواصل الاجتماعي والتقانة الدور الأكبر، وهنا أسهمت جماعات الجيوش الإلكترونية في أداء دور إيجابي، وكان لتشكيلها أهمية كبرى، هذه الوسائل استطاعت أن تؤدي أدواراً خطرة على كل صعيد، ولم يخطر ببالنا أن نجمعها، فعلاوة على ما تقوم به قنوات تافهة استطاعت وسائل التواصل أن تعزز الشرخ الطائفي بشكل خطر، وكل منا يملك منجماً من المعلومات والفيديوهات، وأغلبها مجهول المصدر، وفيها من الإقناع ما فيها، وتحوّل كل واحد منا إلى خبير بشؤون الطوائف والمذاهب، وهو لا يعرف مذهبه! وعلى الصعيد السياسي نقرأ كل يوم عشرات، بل مئات وألوف الرسائل والتحليلات التي جعلت من كل جاهل محللاً سياسياً قادراً على تقويم الوطن، وهو لا علاقة له به بحال من الأحوال، بل إن وسائل التواصل بما تزرعه تحاول إقناع القارئ بأي شيء، بما في ذلك فعل الخيانة!
ومن يستعرض هذه الوسائل يجد أن فيها كمية كبيرة من نبش وأكاذيب ملفقة حول موجودين وراحلين، لتعزز أمراً أو لتقرر أمراً..! وعلى الرغم من جهلي التقاني استعرضت الكثير، فوجدت من القضايا التي لا تهم أحداً، لكنها تشكل حافزاً للوصول إلى قناعات مشينة، مثل: ما دين الفنان الفلاني؟ ما مذهبه؟ ما مذهب زوجته؟ وما و.. ما؟ وما حقيقة إيمان فلان؟ وأشياء تزرع في بنية المجتمع شروخاً لا تنتهي!
وأنت عندما تطالع مقطعاً سياسياً يدلك على مقاطع مختارة، وقد دفعني الفضول لفتح أحدها، فوجدت هذا يدلف بك إلى مقاطع أخرى، بعضها قصص مخترعة، وبلغة رديئة وألفاظ مرذولة، وبعضها مقاطع مصورة، وتابعت الأمر، فلم أترك ما وصل إلي من دون استعراض في العناوين والفحوى، والمؤلم أن هذه المقاطع تهبط إلى شاشتك الذكية من دون أن تطلبها، وتجعلك أمام فضول الاستعراض، فتخيل معي آلاف القصص والمقاطع، وبلا مبالغة، وكلها تدعو إلى العلاقات المحرمة الأسرية، بل تعطيك الخطط المحكمة للنيل من أخت أو أم أو ابنة بتصوير بشع للغاية.. وعندما تطالع مثل هذه المقاطع تعرف السبب الذي يجعل ابنك أو ابنتك يجلس ساعات على جواله، ولا يعرف النوم، ويستبد به الأرق، وهو يراقب أباً وأماً، أخاً وأختاً، قد يقول قائل: ولمَ أستعرض هذه الأشياء؟ أنا لا أستعرضها.. قد يكون محقاً، ولكن ما حالنا ونحن نجهل ما يقوم أبناؤنا وبناتنا بمطالعته؟ والأدهى أن كل هذه القصص تعمل على التشويق والترغيب، وتحبب إلى ذاتك اقتحام محرم يهتز له الوجدان!
قد يشتم أحدهم ويلعن، ويدعو للمقاطعة، ولكن كيف يكون ذلك؟
سنعود سيرتنا الأولى في الرفض، ويقحمنا العالم المتطور لنجد أنفسنا مستلبين إن لم نقم بصنع منظومة حضارية تربوية فكرية مشوقة تزاحم هذه الخزعبلات المدمرة، فهل نقوم بذلك؟ أم إننا سنجد أنفسنا وأجسادنا مستقبلاً، في أتون هذه الوسائل؟ الجيوش الإلكترونية نحتاجها ليس من منطلق سياسي فقط، بل من منطلق حضاري تربوي يبتعد عن الوعظ والإرشاد الديني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن