قضايا وآراء

بها، لن تكون «منطقة التلال الخمس»* آمنة

عبد المنعم علي عيسى : 

خطوة أردوغان الأخيرة بوضع قاعدة أنجرليك التركية تحت تصرف طائرات التحالف بعد سنة تقريباً على بدء العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (أيلول 2014)، جاءت بالتزامن مع الضربات الأولى التي وجهها الطيران التركي ضد مواقع حزب العمال الكردستاني وهو ما يؤكد أن الثانية كانت ثمناً للأولى، ومع ذلك فإن ذلك الثمن أتى في سياق أكبر ولم يكن هو الهدف الأكبر، فطائرات التحالف يمكن أن تستخدم قاعدة أنجرليك لدعم حزب العمال الكردستاني وتقديم مظلة جوية له في مواجهة داعش بما لا يتناسب مع المصالح التركية، إذاً لماذا ذهبت أنقرة إلى ما ذهبت إليه؟
يقرأ أردوغان فترة الأشهر الثلاثة التي تفصلنا عن شهر تشرين الأول الذي سيشهد صدور شهادة حسن السلوك الأميركية لطهران (وهو الأرجح) بعد تقديم هذه الأخيرة أدلة قاطعة على حسن نياتها وأهمها أن يكون مفاعلا (آراك + فوردو) قد خرجا تماماً من الخدمة ما سيحتم على واشنطن الإيفاء هي الأخرى بالتزاماتها بإعطائها إشارة ok على السيناريوهات بما فيها تلك التي بقيت طي الكتمان.
هذه القراءة تدعو أردوغان إلى محاولة استثمار تلك الفترة فرض دور تركي أكبر في المنطقة بعد أن تقزّم ذلك الدور على خلفية أخطاء سياسية قاتلة كان قد ارتكبها هو بيديه وأضرت كثيراً بالثقل النوعي التركي في المنطقة بحيث بات من الممكن القول إن السياسات الأردوغانية لم تكن أبداً بمستوى الإمكانات أو القدرات التركية.
يستدل على ذلك بالنبرة العالية التي ظهرت قبل حين ومن المتوقع لها أن تستمر إلى حين أيضاً، أملاً في إمكان تحصين- وتحسين- مواقع إقليمية حساسة تصب في مجملها بما يفيد المصلحة التركية.
تنقل نيويورك تايمز 3/8/2015 عن مسؤولين أميركان أنهم اطلعوا على المحادثات الأميركية- التركية بشأن المنطقة الآمنة (هكذا كما يبدو اتفق على تسميتها ما بين أنقرة وواشنطن) بأن هناك الكثير من التفاصيل لم يتم تحديدها بعد، بما في ذلك عمق الشريط داخل الأراضي السورية، ليضيف أحد هؤلاء (الذين تنقل عنهم) إن الفهم الأميركي للطلب التركي يتمثل في منطقة خالية من داعش + ضمان أكبر من الأمن والاستقرار على طول الحدود السورية- التركية، وهو أمر ليس من السهل تحقيقه وهو (لا نزال في سرد من تنقل عنهم الصحيفة) يحتاج إلى دعم لوجستي هائل قد لا تستطيع أنقرة تأمينه ولو تم ذلك بدعم من الناتو.
ما جرى في حلب 5/8/2015 يوضح الصورة تماماً، فقد قامت جبهة النصرة بإخلاء مواقعها في الريف الشمالي لحلب بما فيها إعزاز وتسليمها إلى مجموعات مسلحة ذات هوى تركي (لواء السلطان مراد- حركة نور الدين الزنكي- كتيبة السلاجقة + كتيبة أحفاد الفاتحين) أما ذكر اسم «الجبهة الشمالية» وسط هذا التجمع السابق فهو لا يعدو أن يكون محاولة لإبعاد «النكهة التركمانية» عنه لكي لا تبدو الأمور وكأنها تتجه نحو كانتون تركي وهو أمر يرفضه العديد من الفصائل المسلحة بل ستذهب إلى مقاومته في حال تأكد لها ذلك.
عشية عملية الإخلاء السابقة أصدرت جبهة النصرة بياناً دعت فيه «المجموعات الجهادية» كلها لأن تحذو حذوها وتنتقل إلى إحدى جبهتين: حلب وريفها أو إدلب وريفها، لتضيف في البيان السابق (وهذا هو الأهم): شريطة أن تكون النقاط الواجب ملؤها في حلب قد استكملت العدد والعتاد اللازمين لاستمرار السيطرة على المناطق التي ستنتقل إليها.
انتهى الاستشهاد بالبيان، ولندقق جيداً في هذا الشرط الأخير فهو ما يفضح التحضيرات الجارية لإنشاء المنطقة الآمنة التي يقال إنها ستمتد من شرق الفرات حتى مدينة إعزاز بطول 114 وعمق 42 كم (بمساحة تعادل 5000 كم أي نصف مساحة لبنان) إذاً لقد أوكل لتلك الفصائل دور القيام بمهام «الجيش التركي» فداوود أوغلو يقول 1/8/2015: «قواتنا البرية في سورية هي الفصائل التي نتعاون معها»، صحيح أن استجابة تلك الفصائل للمطالب التركية ليست 100% كما ترغب أنقرة إلا أنها تمثل الخيار الوحيد أمام هذه الأخيرة ريثما تستكمل خطوات بناء الجيش التركماني الذي سيقوم على توحيد الفصائل السابقة بقوام يزيد على 5000 مقاتل كما يقول رئيس المجلس التركماني السوري عبد الرحمن مصطفى 7 تموز 2015.
يرى أردوغان أن المنطقة الآمنة ستؤدي إلى قتل الحلم الكردي بوصل عين العرب مع عفرين أولاً، ثم إنها ستؤمن التواصل التركي مع المجموعات التي تدعمها أنقرة في سعيها وراء إسقاط النظام السوري وهو أمر لا يزال في رأس الاهتمامات الأردوغانية وقد كان لافتاً ما قاله أردوغان للرئيس الإيراني حسن روحاني في اتصال هاتفي جرى 5/8/2015 أي بعد يومين من لقاء الدوحة: «لن يكون هناك استقرار في سورية ما بقي بشار الأسد في سدة الحكم».
يعاني مشروع المنطقة الآمنة «أزمات بنيوية عديدة لعل أهمها عدم وجود شريك سوري فاعل، صحيح أن هناك العديد من الفصائل التركمانية المستعدة للتعاون مع أنقرة والوصول معها إلى حيث تريد إلا أنه من غير الممكن الاعتماد عليها وحدها كي لا يبدو الأمر «تقطيعاً» تركياً للجسد السوري، من هنا تسعى أنقرة إلى إيجاد ذلك الشريك والذي تبدى لوهلة أنها قد وجدته في حركة أحرار الشام ليتبين أن ذلك خيار مستحيل على اعتبار أنه يحتاج إلى موافقة أمريكية يصعب استصدارها بسبب العلاقة القائمة بين الحركة وبين جبهة النصرة.
صحيح أن واشنطن وأنقرة تدعمان جبهة النصرة وأحرار الشام والفصائل التي تدور في فلكها إلا أن الاعتماد عليها في قيام منطقة آمنة هو أمر مختلف تماماً ولا يمكن لأي منهما الذهاب إليه، بحكم أن ذلك يحتاج إلى تحالف «علني» وثيق يستحيل على الاثنين تحمّل الأثمان السياسية المترتبة على قيامه.
المناخات الإيجابية المتولدة عن اتفاق فيينا 14/7/2015 تعطي اليوم أجواء «لبنية» التشكل أي في أطوارها الأولى وهي تحتاج إلى أفران للتجفيف أو للتقسية، وهذه الأخيرة أميركية الصنع في أغلبيتها أو أنها لا تعمل إلا بقرار أميركي، على حين يتبدى أن ضابط إيقاع الفرن في (الحرارة- الرطوبة- الضغط الجوي) لا يزال ينظر ويعيد حساباته في البضاعة المقدمة لتجفيفها.

* التلال الخمس هي المنطقة التي يقع فيها قصر أردوغان الجديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن