أبو الخطايا
| زياد حيدر
نكثر من الحديث عن الأخلاق العربية، وشيم القبيلة الأصيلة، من بدو الجزيرة، أو قوم البحر الساميين، وصولاً لهيئتنا الحالية. المغتربون، وأنا عاشرت منهم الكثير، وكنت منهم في تكويني أيضاً، يحنون لأخلاق وتقاليد العرب، ويتحدثون عنها بحنين صادق، وهم يقاطعونها مع مستقبل أولادهم.
منذ صغري، وأنا أسأل نفسي، ما الذي تعنيه الأخلاق، خارج تعريفها الأدبي، وأعمق من ظاهرها الاجتماعي؟
وكما غيري، لم أسلم من المقارنة بين ما نحن عليه من أخلاق، وأخلاق المجتمعات الأخرى.
ولكيلا يسعف أحدنا القول هنا أنها عقدة النقص من الغرب، المقارنة ليست مع البيئة الغربية، لكونها الأقرب جغرافياً والأكثر تماساً معنا عبر العصور، ولكن مع المجتمعات الأخرى أيضاً.
لا أعمم، بالطبع، وكلمة بعض لا تعني الكل، ولكن التفاصيل الصغيرة توحي بأشياء كبيرة، كما تخفي الوقائع الضخمة تفاصيل صغيرة أساسية.
قال لي صديقي المغترب مرة إنه قرر زيادة فترات بقاء ابنه المراهق في بلده لبنان، في الصيف، وذلك لحاجته للاحتكاك ببني جيله هناك أكثر. وظننت أن ما يعنيه كان ممارسة اللغة العربية وتطويرها، فأضاف: إن هذا صحيح، ولكن ثمة أمر آخر يقلقه، أكثر وهو نبل ابنه وصدقه. وشرح من دون حاجة للتوضيح، فقد فهمت، أنه يريد لابنه أن يصبح «مكولك» كما نقول بالعامية، أو «شاطر» و«قد حاله» بين أبناء جيله.
ونظر في عيني وأراد أن يقول شيئاً يرسخ في الأذهان ولا يخلو من قلق «تخيل أن ابني بلغ الرابعة عشرة وحتى الآن لا يعرف كيف يكذب؟»
أين لنا أن نتعلم الكذب، بالمستوى اللائق كما في بلداننا ومجتمعاتنا الشرقية؟ الشاطر هو الملسن، الذي يتمكن من قول ما يرغب الجميع في سماعه. أي متمرس الكذب، وإن راق للبعض تسميته «الدبلوماسي» أحيانا. و«الشاطر» هو الذي يجيد صناعة متاريس الكذب حول نفسه، وقد تتعدى اللباقة اللغوية، باعتماد حصون الدين وتخريجاته الكثيرة، بين الحلال والحرام، التحايل على الدولة والقانون، ومراوغة المجتمع أفراداً وشرائح.
كل البشر تكذب، فهو من طبيعة البشر الأوائل، وقد تطور معهم مع تطور القوانين، وتعقد الحياة، والحاجة لابتكار سبل بقاء ونجاة، والكذب بلا شك شيء منها.
السياسي يكذب، ولكن هذا أساس تكتيكه اليومي. التاجر يكذب لأن صفوة ربحه تأتي من الكذب. لكن ثمة مهن أخرى لا تتطلب الكذب، ولا تجني منه شيئاً يذكر، والأهم أنها لم تبن ولن تستمر على أساس الكذب، بعكس مهنة السياسي والتاجر والدجال.
لماذا نكذب إذاً؟ ومتى نبدأ بالكذب؟ هل تأخر صديقي بإرسال ابنه، إلى حيث يجب أن يتعلم أحد فنون البقاء في الشرق؟
أم إن هذا يمكن تعلمه متى ما شئنا؟ أم إنه موهبة تصقل ولا تمنح ؟ لماذا يجد بعضنا الكذب سهلاً، ومريحاً، وبعضنا الآخر لا؟
لماذا لا يخجل الكذاب من انفضاح كذبته، في أغلب الأحيان؟
في روايته الرائعة «فتى الطائرة الورقية» يقول خالد الحسين على لسان إحدى شخصياته «إن السرقة هي أكبر الكبائر وأم الذنوب»، مفسراً أن من «يكذب علينا يسرق منا الحقيقة». شخصياً لطالما ظننت أن الكذب هو ولاد الذنوب كلها. فالكذب لم يكن ليولد، لو لم يكن هنالك ما يجب إخفاؤه، أو صنع عالم بديل متواطئ مع رغباتنا، على حساب غيرنا.