إيزابيل الليندي و«العاشق الياباني».. عوالم آسرة وأشخاص بتنوع الحياة
| هبة اللـه الغلاييني
عندما نقرأ للكاتبة التشيلية (إيزابيل الليندي) تتأهب الحواس كلها للمتعة! حيث تأخذك لعوالم آسرة وأحداث ومواقيت وأشخاص من جنسيات مختلفة وبيئات متفرقة، تعطيك من غنى معرفتها وتمكنها من التاريخ، وقلمها السيال الذي ما إن بدأ، لا يستطيع التوقف بسهولة.
في روايتها الأخيرة(العاشق الياباني)، يشدك العنوان، هناك دوما حالة عشق ووله وغرام في رواياتها، تصفه بدقة وشفافية وتغوص في أعمق ثنايا الروح التي تبحث عن الحب والمتعة والاحتفاء بالحياة بجميع أبعادها، فالحب عندها لا متناه لا يقف عند زمن معين، ولا عمر معين، يخترق الحواجز التي نضعها نحن البشر، لشدة غبائنا، وعدم قدرتنا على تصديق اللحظة التي بين أيدينا، فتفوتنا أبواب من السعادة واللذة بسبب ضيق آفاقنا.
تبدأ روايتها هذه المرة من مأوى (لارك هاوس) في ضواحي بيركيلي، الذي تأسس في منتصف 1900 ميلادي بنية إيواء العجزة محدودي الدخل، وتلمح إيزابيل إلى أن المسنات هنالك كن يحكن الصوف للاجئات السوريات أثناء سردها للوقائع المعاصرة!
دخلت (إيرينا باثيلي) بطلة الرواية في بدايتها للعمل في (لارك هاوس)، سنة 2010، حين كان عمرها لا يتجاوز ثلاثة وعشرين عاما، ولم تتوقع بتاتا أن تجد راحتها التامة في هذه الدار التي تؤوي المسنين، وأنها ستذوق وفي غضون ثلاث سنوات متتالية طعم سعادة ذكرتها بأيام طفولتها.
تتعرف (إيرينا) على المرأة العجوز (ألما بيلاسكو) التي ستخطف البطولة من (إيرينا)، في دار المأوى، وعلى حفيدها سيت الذي أبدى إعجابه بـ(إيرينا) من أول نظرة. وتحاول إيرينا بمساعدة (سيت) اكتشاف من يرسل لـ(ألما) رسائل وهدايا سرية!
كانت (ألما) امرأة عجوزاً متحررة من مشاعرها، وشديدة الثقة بنفسها وغير عابئة بالماديات، ذات أنفة وشموخ، عرضت على (إيرينا) أن تشتغل لحسابها، بالفترة المسائية، بعد أن تنهي عملها في لارك هاوس، ووافقت إيرينا على هذا العرض، فنشأت بينهما ألفة ما لبثت أن تحولت إلى صداقة متينة.
ومن خلال هذه الألفة تكتشف (إيرينا) العشق الخالد بين (ألما) والياباني (إيشيمي فوكودا) الذي يواظب على إرسال الهدايا والرسائل لمعشوقته الثمانينية، وأثناء البحث عن سر هذا الحب العتيق، تأخذنا الكاتبة في رحلة إنسانية سياسية دينية ولا يمكن وصفها بأنها مجرد حبكة قصصية، فالعاشقان هما (ألما) اليهودية الهاربة من الإبادة النازية في بولندا، والعاشق الياباني ابن الأومونوية، وهي إحدى الطوائف الشنتوية الذي تطارده السلطات الأميركية – مع أقرانه من اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وتزج بهم في معتقلات الترحيل وتسومهم الديمقراطية الأميركية سوء المعاملة والعذاب.
أثارت (الليندي) في روايتها قصة التمييز العنصري في أميركا، الذي عانته أميركا لردح من الزمن، وتطرقت إلى العنف بحق اليهود من خلال (النازية)، حيث أبدت تعاطفا قوياً مع الطائفة اليهودية وسردت عن معاناتهم وآلامهم!
غير أن العاشقين في نظرها لا يكافحان التمييز العنصري في أميركا، ولا التمييز الديني في أوروبا، كل ما سعيا إليه هو تحقيق أحلامهما البسيطة بالأمن والسلام وممارسة شعائر الحب في راحة وحرية.
ونتفاءل بأن هناك إشارات واضحة في الرواية لا يمكن تجاهلها:
أولا: الحب الصادق والعميق، وخاصة في سبعينيات وثمانينيات العمر، ورسائل الحب المتبادلة بين العاشقين، التي يفتقر إليها جيل هذا اليوم، فالحب عند ايزابيل الليندي، لا يقتصر على جيل الشباب ومراهقي الأربعينيات كما اشتهر في الأدب والحياة، بل يمتد ويبقى صامدا، وتقوى أواصره إلى آخر العمر.
ثانيا: حروب الإبادة التي قادتها النازية على اليهود وحروب الإذلال التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية ضد اليابانيين، فهل بالمصادفة الجاني بالحالتين مسيحي والمجني عليه يهودي وبوذي وشنتوي؟ وهل قانون معاداة السامية يجعل سهام الطعن بالأخلاقيات المسيحية في القرن الميلادي الأخير أكثر رواجا وآمن سبيلا من التهديدات الإرهابية؟
ثالثا: وصفت الكاتبة (لارك هاوس) بالمكان الآمن والهادئ للمسنين، وهو ما يجعلنا نتفاءل بشيخوخة سعيدة، مادام هناك أماكن بديلة للعجائز ليعيشوا أواخر حياتهم حياة هانئة ويضمنوا رعاية صحية تجعلهم يستسلمون للموت بعذوبة وهناء.
رابعا: ناقشت الرواية بإسهاب معظم مشكلات القرن الميلادي الأخير من الإبادة العرقية والاضطهاد الديني إلى الاتجار بالرقيق الأبيض، واستغلال الأطفال جنسيا، والهجرة، ومرض الإيدز، والمثلية الجنسية، وذلك ضمن سرد قصصي متقن جدا.
وهناك بعض الأسئلة التي يمكن أن نطرحها، مثل الإشارة لرسوخ صورة (تشي غيفارا) في الأذهان وعلى المطبوعات والألبسة، هل هو تحد صريح من الكاتبة لديمومة الاشتراكية التقدمية في صورها الرمزية الخجولة؟
وما معنى الإشارات لسقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار جدار برلين وربطهما بتحول بنات تلك الدول لسلع من اللحم الأبيض، وتحول العجائز والأطفال لضحايا الجوع والفقر والمرض والاستغلال الجنسي (بؤساء فيكتور هيغو المعاصرون!).
كما علينا ألا ننسى الرسائل المتبادلة بين العاشقين، التي لعبت دوراً مهما في الرواية، حيث أوضحت (ألما) لحفيدتها(كيرستن) ساعة احتضارها مسؤولية الحفاظ على كنزها ورسائلها التي نظمتها (ألما) في رزم داخل محفظة، كانت الرزم مرتبة من الرقم واحد إلى الرقم أحد عشر، وكل رزمة تحوي عشرة أظرفة، باستثناء الرزمة الأولى التي كانت تضم ست رسائل وبعض الرسوم.
أوصت (ألما) حفيدتها بأن تكون (إيرينا) هي المسؤولة عن هذه الرسائل لشدة ثقتها بها، وهو ما جعل قلب (ايرينا) يخفق فرحا.
وبعد الاطلاع على الرسائل وتقصي الحقيقة اكتشفتا أن ألما كانت تستقبل رسائل إيشيمي في منزل سي كليف حيث كانت تعيش، وحينما انتقلت للعيش في (لارك هاوس) شرعت ألما في إرسال الرسائل نفسها لنفسها في فترات متقطعة. لقد فعلت (ألما) هذا بوعي وحس عملي، لتحافظ على جذوة حبها الأبدي وهاجة دائما، فهذه المسنة التي بدت مخلوقة من مواد لا يصيبها الوهن، كانت في الواقع امرأة رومانسية حتى النخاع، فقد كانت ترسل إلى نفسها كل أسبوع زهور الغاردينيا، واتضح أيضاً أن مشاويرها السرية لم تكن بصحبة عاشقها، وإنما كانت تذهب وحدها إلى منتجع بوينت رييس لإحياء ذكرى لقاءاتهما الماضية، إثر غياب إيشيمي عنها وزواجه.
وفي آخر رسالة حقيقية تلقتها (ألما) من عشيقها كتب فيها:
(لقد قلنا في مناسبات عديدة إن حبنا هو قدرنا. لقد تحاببنا في حياة خلت، وسنتحاب في حياة مستقبلية، أو ربما لا وجود للماضي والمستقبل، وكل شيء يحدث في الآن نفسه، في أبعاد هذا الكون اللامتناهية! في هذه الحالة، نحن دائماً معا، وإلى الأبد.
يا لروعة الوجود!ما زلنا في السابعة عشرة من عمرنا، يا حبيبتي (ألما).. ويالروعة هذا العشق الغريب الأبدي، الذي ندر وجوده في زماننا هذا).