ثقافة وفن

الأنظمة الداخلية لضمان الجودة أحد عوامل نجاح مؤسسات التعليم العالي

| أ. د. وائل معــلا

تتعرض اليوم أنظمة التعليم العالي في العالم ومؤسساته، أكثر من أي وقت مضى، للتغيير والتحول المستمر. ومع التوسع السريع لقطاع التعليم العالي، أصبحت مؤسسات التعليم العالي وبرامجها أكثر تنوعًا. وضمن هذا السياق، أضحى أداء مؤسسات التعليم العالي وجودة برامجها أكثر عرضة للتدقيق والمراجعة.
أدى هذا الوضع أولاً إلى تطوير آليات خارجية لضمان الجودة في التعليم العالي، واندرج هذا في إطار حركة إصلاح عامة انطلقت في أنحاء مختلفة من العالم. وباتت الحكومات بالفعل تنخرط بشكل متزايد في مراقبة جودة مؤسسات التعليم العالي وبرامجها من خلال عمليات تقييم خارجية دورية تقوم بها هيئات أحدثت لهذه الغاية. وقد استجابت مؤسسات التعليم العالي أيضاً لهذا الاهتمام الكبير بقضايا الجودة، فأنشأت آليات داخلية لمراقبة الأداء وحسن إدارة المؤسسة.
ضمن هذا السياق ، أطلق معهد اليونسكو الدولي للتخطيط التربوي UNESCO International Institute for Educational Planning (IIEP) مشروعًا بحثيًا في عام 2014، لاستكشاف الاتجاهات الدولية والممارسات المبتكرة والمبادئ الجيدة في الأنظمة الداخلية لضمان الجودة في مؤسسات التعليم العالي. وسعى البحث إلى توضيح آثار هذه الأنظمة، وتحديد العوامل الداخلية والخارجية التي تكيف وظائفها الفعالة في الجامعات، وذلك بغية مساعدة مؤسسات التعليم العالي الأخرى التي تعمل على تطوير أنظمتها الداخلية لضمان جودة أدائها.
وفي مطلع العام الحالي 2018 صدر عن اليونسكو تقريراً بعنوان: «ضمان الجودة الداخلي: تعزيز جودة التعليم العالي وإمكانية توظيف الخريجين» Internal Quality Assurance: Enhancing higher education quality and graduate employability ، هدف إلى إلقاء الضوء على هذا المشروع البحثي وإبراز أهم النتائج التي توصل إليها.
اعتمد هذا المشروع على منهجية المسح الاستقصائي الدولي، وأجري بالتعاون مع الرابطة الدولية للجامعات، وتضمن ثماني دراسات حالة معمقة Case studies لجامعات متعددة. وشارك في المسح الدولي حوالي 400 جامعة.
أظهرت النتائج أن أكبر محرك للأنظمة الداخلية لضمان الجودة في الجامعات هو تلبية متطلبات نظام ضمان الجودة الخارجي الوطني، وهذا ما أشار إليه 89٪ من المؤسسات المستطلعة.
وجاء في المرتبة الثانية تطلع المؤسسة إلى حضورها دولياً- في إشارة إلى رغبة الجامعة في أن تصبح مؤسسة جاذبة للطلاب الأجانب والموظفين والأموال- مسجلاً نسبة 80٪. تلاها في المرتبة الثالثة السعي لتحقيق متطلبات المنظومة الوطنية للمؤهلات (بنسبة77٪). وفي الوقت نفسه، أشار ثلاثة أرباع (75٪) المؤسسات المستجيبة إلى أن طلب الحكومة تطوير أنظمة ضمان الجودة الداخلية في الجامعات كان دافعًا مهمًا أيضًا.
كذلك أظهر المسح أن الأنظمة الداخلية لضمان الجودة في الجامعات تركز بشكل عام على التعليم والتعلم، على الرغم من أن إدارة المؤسسات هي أيضًا محط اهتمام. كما تظهر النتائج وجود ثغرات لدى بعض الجامعات في تطوير أنظمتها الداخلية لضمان الجودة، وهي ثغرات تظهر مثلاً في رصد أنظمة تقييم الطلاب، وفي البيئة المادية، والاهتمام بتوظيف الخريجين ومتابعة تقييم أدائهم في حياتهم المهنية.
إضافة لما سبق، ركز البحث على الهياكل المبتكرة للأنظمة الداخلية لضمان الجودة في الجامعات الثماني موضوع الدراسة، حيث ظهر أن العامل الحاسم في نجاح هذه الأنظمة هو ربط أدواتها بوظائف الجامعة الأخرى. فمثلا طورت جامعة Duisburg-Essen الألمانية نظامها الداخلي لضمان الجودة كنظام متكامل من الأدوات والعمليات.
كما أن جامعة الولاية الحرة في جنوب أفريقياThe University of the Free State دمجت نظامها الداخلي لضمان الجودة مع العمليات الأساسية الأكاديمية للجامعة، حيث يمكن للنتائج التي يتم الحصول عليها نتيجة تطبيق هذا النظام أن تدخل بشكل مباشر في التخطيط الأكاديمي. وأخيراً، قامت جامعة تالكا the University of Talca في تشيلي بدمج نظامها الداخلي لضمان الجودة مع الإدارة الاستراتيجية للجامعة.

الابتكار والنجاح
يساعد هذا البحث في تحديد أدوات مبتكرة تعتمدها الجامعات في وضع أنظمتها الداخلية لضمان الجودة، وهي أدوات تدعم تحسين الأداء وتزيد من قابلية توظيف الخريجين وتسهم في نشر ثقافة الجودة. كذلك يبيّن بشكل واضح أهمية تزوّد هذه الأنظمة الداخلية بهياكل اتصال رسمية وغير رسمية باعتبارها عاملاً حاسماً في النجاح، وكان هذا أحد السمات الرئيسية للنظام الداخلي لضمان الجودة في جامعة فيينا للاقتصاد والأعمال the Vienna University of Economics and Business.
يسلّط البحث الضوء على الأدوات والعمليات التي اعتمدتها كل من جامعة دايستار في كينياthe Daystar University والجامعة الأمريكية الدولية في بنغلاديشthe American International University في تصميم أنظمتها الداخلية لضمان الجودة، وهي أنظمة تتناول قضايا الجودة عموماً مع التركيز على قابلية الخريجين للتوظيف وقدرتهم التنافسية في سوق العمل؛ فكلتا الجامعتين استجابت لواقع ارتفاع البطالة بين الخريجين، فوجّهت أنظمتهما الداخلية لضمان الجودة بشكل خاص نحو جمع المعلومات من الخريجين، وكذلك من الجهات الموظفة ومن أرباب العمل، وتقييمهم لأداء هؤلاء الخريجين وقدراتهم ونقاط القوة والضعف عندهم.
كذلك يساعد البحث في تحديد أثر الأنظمة الداخلية لضمان الجودة في التعليم والتعلم ، وفي تحسين قابلية الخريجين للتوظيف ورفع قدراتهم التنافسية، وذلك بتقييم محتوى المناهج ومدى تغطيتها للمادة العلمية المطلوبة، وأنظمة تقييم الطلاب، والأساليب المتّبعة في التعليم والتعلم في كل البرامج الدراسية، الأمر الذي يعزّز قدرة الجامعات على تحسين قابلية التوظيف لدى خريجيها.
كذلك أظهرت الدراسة أن الأنظمة الداخلية لضمان الجودة تعزّز تحسين أساليب إدارة الجامعة عبر تقييم هياكل الإدارة وعملياتها لتحديد التغيير التنظيمي الضروري والممارسات الجديدة التي تسمح بدعم أفضل للعمليات الأكاديمية الأساسية.
ولقد حددّ البحث العوامل الداخلية والخارجية التي تتحكّم بالتشغيل الفعال لتلك الأنظمة، فأكد ضرورة أن تكون شمولية وإلزامية وتشاركية، فيلتزم القادة بها، وينخرط في وضعها وتطبيقها جميع أصحاب المصلحة فيها، وهي عوامل داخلية مهمة لضمان فعالية أدائها. كما أولى أهمية للعوامل الخارجية المؤثرة بقوة في تطبيق أنظمة ضمان الجودة الداخلية في مؤسسات التعليم العالي، وأهم تلك العوامل الخارجية المنظومات الوطنية للمؤهلات، والأنظمة الخارجية لضمان الجودة، ومدى الاستقلالية التي تتمتع بها الجامعات.
تنبع أهمية هذا المشروع من كونه يسهم في إطلاع صانعي سياسات التعليم العالي الوطنية والمؤسسية وكذلك المسؤولون عن ضمان الجودة، على نماذج من التجارب الناجحة في الجامعات العالمية والدروس التي يمكن استخلاصها منها، وكلها تؤكد أهمية توافر أدوات مرنة ونوعية للأنظمة الداخلية لضمان الجودة في الجامعات، تعمل بطريقة متكاملة مع الأنظمة الكمية، تفادياً لإثقال النظام بحجم هائل من المعلومات.
ومن أهم ما تخلص إليه هذه الدراسة أهمية الحوار والعمل التشاركي بين أصحاب المصلحة والمعنيين الجامعيين بتحسين الجودة، وأن يستند هذا الحوار والعمل المشترك إلى أدلة ومعطيات وبيانات هي النتائج التي تخلص إليها الأنظمة الداخلية لضمان الجودة.

أنظمة ضمان الجودة
ومسؤولية مؤسسات التعليم في سورية
تقع المسؤولية الرئيسية عن قياس معايير الجودة الأكاديمية على عاتق الجامعات أولاً؛ حيث من المفترض أن يكون لدى كل جامعة أو مؤسسة تعليمية إجراءاتها الداخلية لضمان جودة أدائها. وتزداد أهمية هذه المسؤولية وتصبح حتمية في حال غياب هيئة وطنية لضمان الجودة تكون مهمتها وضع معايير وطنية لقياس جودة أداء الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، ومراجعتها دورياً للتأكد من مدى توافق معايير الأداء فيها مع مقاييس جودة الأداء المعتمدة، ومن مدى فعالية إجراءات ضمان الجودة المعمول بها داخلياً في المؤسسة. كذلك من مهام هذه الهيئة تقييم البرامج الأكاديمية في الجامعات والمؤسسات التعليمية بهدف ضمان حصول الخريجين على المعارف والمهارات اللازمة التي تؤهلهم لدخول سوق العمل وتعزّز قدراتهم التنافسية والإنتاجية.
بناء على ذلك لابد أن يكون لكل جامعة، حكومية كانت أم خاصة، منظومتها الداخلية الخاصة بها لضمان الجودة، والتي من خلالها يتم على سبيل المثال لا الحصر التأكد من مستوى تحصيل الطلاب، ومؤهلات أعضاء هيئة التدريس وقدراتهم وكفاءاتهم العلمية والتعليمية، ومستوى المرافق والتجهيزات، وفعالية التعليم، والإنتاج البحثي، والتخطيط، والعمليات الإدارية، ومدى ملاءمة البرامج وجودتها لمتطلبات سوق العمل، وغيرها. ولا بد أن تعمل الجامعات على التوازي وقبل البدء بأي عمليات تنفيذية على نشر ثقافة الجودة، بحيث يكون جميع العاملين في الجامعة أو المؤسسة التعليمية على علم ودراية بكل عمليات التخطيط والتنفيذ المتعلقة بضمان الجودة، وبجميع مستجداتها، وذلك لإيجاد البيئة المناسبة لتقبل العاملين في المؤسسة التعليمية لنظام ضمان الجودة، والمشاركة في دعمه والعمل على إنجاحه. كذلك من الضروري أن يكون جميع العاملين على دراية بالفوائد التي ستجنيها الجامعة من خلال تطبيق نظام خاص بضمان الجودة، وأن يكونوا على معرفة تامة بدورهم في هذا النظام، وعلى قناعة تامة بخطة المؤسسة التعليمية لوضع نظام للجودة.
وهنا لا بدّ من التنويه بالخطوة الرائدة التي اتخذتها جامعة دمشق عام 2007، والتي تجسّدت بإحداث مركز ضمان الجودة في الجامعة. وقد تبنّى المركز منذ إحداثه عدداً من الأهداف الاستراتيجية، منها إدارة منظومة ضمان جودة العملية التعليمية في الجامعة ، وتطوير الأساليب الحديثة في التعليم والتعلم والتقييم الملائمة لظروف الجامعة، وبناء قدرات العنصر البشري وتطوير أداء أعضاء الهيئة التدريسية والتعليمية، وبناء الشراكات الاستراتيجية وإقامة العلاقات التبادلية مع المراكز البحثية والهيئات العلمية الإقليمية والعالمية العاملة في مجال ضمان الجودة والاعتماد في التعليم العالي.
لكن وضع أنظمة ضمان جودة خاصة بكل جامعة لا يغني إطلاقاً عن وجود «هيئة وطنية» مهمتها وضع المعايير الوطنية لقياس الجودة، ومراقبة أداء الجامعات وتقييم مدى تطابقه مع المقاييس الوطنية المعتمدة. ومن ثم فلابد من الإسراع بإحداث الهيئة الوطنية لضمان الجودة والاعتماد لتؤدي الدور المهم المناط بها، وخاصة مع التوسع الكبير الذي شهده قطاع التعليم العالي خلال العقدين الماضيين، ودخول أطراف جديدة إلى هذه القطاع كالجامعات الخاصة والتي باتت تتنافس فيما بينها على استقطاب الطلاب، والكفاءات العلمية والإدارية على حد سواء.
ورغم أن إحداث هذه الهيئة الوطنية كان واحداً من مشاريع الخطة الخمسية العاشرة في قطاع التعليم العالي، إلا أنه بعد مرور سنوات عديدة على انتهاء هذه الخطة لم تر هذه الهيئة الوطنية النور بعد. لا بد أن يكون إحداث هذه الهيئة أحد أهم مشاريع تطوير قطاع التعليم العالي في المرحلة القادمة، مرحلة إعادة الإعمار. أمّا اختصار عمل هذه الهيئة ومهامها العديدة الحساسة بمديرية صغيرة في وزارة التعليم العالي، ففيه الكثير من الإجحاف بحق مؤسسات التعليم العالي العامة والخاصة التي أصبح عددها كبيراً (بعد أن تجاوز عدد الجامعات الخاصة المرخص لها عشرين جامعة)، الأمر الذي جعل هذه المديرية الصغيرة المثقلة بالأعباء تلجأ إلى التدقيق والتمسك بمؤشرات شكلية، وتبتعد عن القضايا الجوهرية التي لها انعكاسات حقيقية على جودة العملية التعليمية في الجامعات.
من هنا، نؤكد أهمية الإسراع في إحداث هذه الهيئة الوطنية في سورية، وتوفير كل مستلزمات نجاحها من بنى تحتية وأطر بشرية وغيرها لمساعدتها على أداء مهامها المهمة على أكمل وجه. على أن يتصف عمل هذه الهيئة بالتميز، وأن تتسم أحكامها بالموضوعية والمهنية، وأن تتعامل بشفافية وصدق وأمانة مع جميع مؤسسات التعليم العالي، وأن تلتزم بالحيادية والمساواة في علاقاتها مع الجهات العامة والخاصة على حد سواء.
كما لابد أن تقوم هذه الهيئة بوضع معايير وأدلة استرشادية متوافقة مع المعايير العالمية تساعدها في أداء مهامها وتحقيق أهدافها؛ وأن تتوافر لها الاستقلالية التامة في تطوير معايير الجودة وإجراءاتها، وعند اتخاذها لجميع القرارات.
إن إحداث الهيئة الوطنية لضمان الجودة والاعتماد في سورية لم يعد خياراً نأخذ به أو لا نأخذ، بل أضحى ضرورة ملحة لضمان جودة مؤسساتنا التعليمية وبرامجها، وخاصة في هذا العصر الذي أجمع الباحثون على تسميته عصر المعرفة الذي نتطلع لأن تلعب فيه جامعاتنا ومعاهدنا دوراً مهماً في توليد المعرفة ونقلها وتسخيرها لخدمة أهدافنا الوطنية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن