عباس و«الهولوكوست» وفلسطين
| يوسف جاد الحق
السيد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يعلن على الملأ وللعالم أجمع بأن «المحرقة النازية هي أبشع جريمة في التاريخ»!
هل كان عباس مضطراً للإدلاء بتصريحه هذا، الفظيع والأخطر، من كل ما سبق أن ارتكب في ظل «أوسلو» من مهازل وتنازلات ومهادنات ومناورات، أفضت في نهاية المطاف، بفضله وحسن تدبيره، إلى تراجع القضية الفلسطينية، بل إلى تهميشها أمام الرأي العام الدولي، إن لم نقل إلى ما يقرب وأدها؟
أتراه كان مضطراً إلى النطق بهذا البهتان العظيم مرة ثانية، بعد أن قالها أول مرة في نيسان عام 2014، وذلك لمجرد نيل رضا رئيس وزراء كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو وبقيه العصابة الصهيونية، من الـ«إيباك» إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون إلى.. إلى..؟
لن يصدق أحد أن هذا إنما حدث عن غير قصد، أو أنها مجرد زلة لسان ليس إلا، فأين موقع قضيتنا إذاً يا سيادة الرئيس؟ وماذا عن مأساة فلسطين وشعبها؟ وهل حقاً أن «هولوكوستهم» هو الأبشع في التاريخ، أم إن ما أوقعوه هم أنفسهم، أبناء الهولوكوست، بفلسطين وشعبها، هو الأكثر بشاعة وإجراماً في التاريخ البشري كله، على مدى عشرة عقود، ولم تزل جرائمهم المنكرة جاريةً تمارس على مدار الساعات والأيام، حتى بعد أن اغتصبوا فلسطين، وسلبوها عنوة واقتداراً، وحرموا أهلها من العيش في رحابها، منهم من قتل، ومنهم من شرد في الآفاق، ومنهم من اعتقل وقضى جل حياته وأيام شبابه في غياهب السجون حتى الموت بين جدرانها.
لماذا يا سيادة الرئيس أبو مازن وأنت المؤتمن على القضية وعلى شعبها، تمثل مصالحهم وتعنيك مصائرهم، أو أن هذا هو المفترض أن تكونه؟
ما الذي يضطرك إلى إعفاء «إسرائيل» من مسؤوليتها الفادحة عما أوقعته بشعبك من مظالم، فضلاً عن سرقة أرض وطن واحتلالها الاستيطاني، وذلك أبشع بألف مرة من «هولوكوستهم» ومما حدث لبشر على ظهر هذا الكوكب على مدى التاريخ البشري كله؟
إن الظلم والإجرام والعسف اليهودي الممارس يومياً على شعب فلسطين حتى الساعة التي تكتب أو تقرأ فيها هذه السطور، ومعذرة عن الإعادة، كان هو «المحرقة الحقيقية»، ذلك أن «هولوكوستهم» ذاك امتد سنوات قليلة في الحرب العالمية الثانية، ثلاث أو أربع سنوات، بيد أن المحرقة الجارية على الفلسطينيين لم تتوقف على مدى سبعين سنة، بل أكثر من مئة سنة إذا ما احتسبنا حقبة الانتداب البريطاني التي مهدت لقيام كيانهم في ديارنا وأوقعت بالشعب الفلسطيني ما لا حصر له من المآسي والمظالم.
أتراه، السيد الرئيس، لم يسمع بمجازر دير ياسين وكفر قاسم والطنطورة واللد والرملة ويافا والقدس وقبية ونحالين وغزة، ثم صبرا وشاتيلا وقانا، والذين أماتوهم عطشاً وحرقاً من الأسرى المصريين في سيناء وغزة عامي 1956 و1967، وغيرها مما لا يمكن إحصاؤه وتحريه بسبب عمليات التعتيم والإخفاء التي يتقنونها؟
هذه الجرائم كلها تهون عند «سيادتك» أمام الهولوكوست النازي الذي وقع عليهم، والذي عوِّضوا عنه بمنحهم بلادنا الفلسطينية هدية مجانية، نحن الذين لم يكن لنا يد فيما وقع عليهم أيَّاً كان حجمه.
حتى إن الإسرائيليين أنفسهم لم يجرؤوا على التفوه بمثل ما ذهب إليه «حامي حمى فلسطين وشعبها» بالتنسيق الأمني مع العدو، وبالإلحاح على «حل الدولتين» الكارثي، وهو الأدهى والأنكى، إذ بموجبه يُمنح الغاصبون شرعية ما اغتصبوه حتى الآن، وهو جل الديار الفلسطينية برمتها، لم يجرؤوا على ذلك خشية عقد المقارنة بين ما وقع لهم وبين ما أوقعوه هم بنا، ما سيؤدي في النهاية إلى كشف للحقيقة التي من شأنها أن تدينهم وتضعهم في المكان اللائق بهم، من حيث كونهم العصابة الإرهابية الأكبر سفكاً للدماء واقتراف أبشع الجرائم في حق الإنسانية، التي عرفها البشر على مدى التاريخ.
ذلك كلام على قدر من الخطورة يريدون تمريره عامدين، وضمن حملات المخطط الإعلامي الممهد لتمرير «يهودية الدولة» أخيراً، ومن ثم فإن على الشعب الفلسطيني في الخارج والداخل أن يهب مطالباً بالمحاسبة، وبما تسفر عنه المحاسبة من نتائج وتبعات تحدد مسؤوليات الجناة.
لا أنتمي لفصيل أو تنظيم أو جماعة، إنما انتمائي لفلسطيني وسوريتي وعروبتي وحسب، ولكن الاستهانة، وفق ما علمتنا إياه التجربة، بنتائج أمثال هذه الحادثة وتركها تأخذ مجراها من دون كشفها والتصدي لوقفها وإجهاضها، أغرتهم على الدوام بالمضي في تمرير ألاعيبهم التي أوصلت قضيتنا ومناصريها، بلاد حلف المقاومة وسورية في المقدمة، إلى الحال الذي بلغته اليوم.
وبعد: هل لنا أن نأمل بتحرك شعبي عارم يوازي في حجمه فداحة ما حدث، إن لم نقل الأمل في اندلاع انتفاضة عارمة كاسحة تفضي إلى تغيير هذا الواقع المأساوي الأسوأ في تاريخنا، توطئة لما هو قادم، دونما ريب، وهو زوال ذلك الكيان المحتضر ومع بلوغه السنوات السبعين من عمره المحدود في هذه الديار المقدسة، وفق النبوءات السماوية القديمة والوقائع الأرضية المستجدة إقليمياً وعالمياً في سائر أرجاء الدنيا.