الصوفية وتأثيراتها في الفن التشكيلي … خطوط بلا حدود مزدحمة بالتشابكات اللونية اللامتناهية
| كرم النظامي
خلافاً للمفاهيم السائدة فإن الصوفية كمذهب روحاني في الحياة ، خرجت من معطف الفلسفة القديمة وليس بتأثير الديانات السماوية ولم تكن حكراً على دين واحد ، وظهرت طرائقها في معظم الديانات مصاحبة للغناء والرقص والإنشاد الديني قبل أن يستلهمها الفنانون التشكيليون في إبداعاتهم المعاصرة وتغدو اتجاهاً فنياً له مريدوه… عرفت الصوفية في الشرق منذ الحضارة القديمة حيث عثر على أحفورات ونقوش جدارية في بلاد الرافدين وشرق الفرات تعود للحقب الآشورية والبابلية تمثل الرقص والغناء للآلهة.
وفي مصر القديمة كان من بين صلوات الفراعنة تلاوة نصوص من (كتاب الموتى) الفرعوني تصاحبه الموسيقى والرقص الإيمائي ويظهر ذلك رسماً على جدران المعابد والمدافن الفرعونية ، وفيما بعد انتقلت إلى القبطية المصرية التي كانت تعتبر أم النسك والزهد على يد انطونيوس الكبير والقديس بولا قبل أن تتسع وتأخذ وجهات روحانية مغايرة في العصر الإسلامي ولاسيما في العهد المملوكي حيث شجع السلاطين ولاسيما الظاهر بيبرس وقلاوون الطريقة الصوفية وبنيا دوراً للمتصوفة من الفقراء والدراويش ، وازدهر الفن الصوفي كغناء وموسيقى مصاحباً للعبادة الروحية في عهد الفاطميين الذين يعتبرون أول من احتفل بعيد المولد النبوي الشريف وليلة الإسراء والمعراج ويوم الفطر والنحر ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين ويوم النيروز والغطاس وخميس العهد كمشاركة مع المسيحيين في شعورهم الديني.. وذلك إلى أن ظهرت الطريقة الشاذلية المعروفة إلى اليوم ومنها انتشرت للهند ، وفي بلاد فارس ظهر المتصوف الأكبر جلال الدين الرومي وهو شاعر وعالم وصاحب الطريقة المولوية المعروفة ، وفي بلاد الأندلس ظهر شمس التبريزي وهو عالم درويش مبتكر رقصة سما الصوفية ومحي الدين بن عربي الفيلسوف الخاتمي الطائي وسمي بالشيخ المتصوف الأكبر.. وخمد الاهتمام بالمتصوفة في الحقبة العثمانية المظلمة فبقي في مصر أتباع المتصوف الشعراني وفي سورية أتباع المتصوف عبد الغني النابلسي في القرن الثامن عشر..
أما عند الإغريق والرومان فعرفت كفلسفة لا دين وتعبد.. حيث كان لدى الإغريق ما يسمى بديانات الأسرار التي تقوم على إيقاظ العواطف بالرقص والموسيقى للتوحد بالآلهة، وفيثاغورس منشىء (العلم الموسيقي) كان هو نفسه صاحب فرقة دينية فلسفية ذات تعاليم سرية، وروى ارسطو أن الناس كانوا يغيبون في حالة تشنج ديني عند استخدامهم الألحان المقدسة فتثور في نفوسهم حالة من الوجد الصوفي..
هي لمحة سريعة عن تاريخية الصوفية وجذورها التي لم تتبلور في أعمال فنية تشكيلية ، حيث كانت وليدة الفلسفة ومصاحبة للرقص والغناء الروحي كتجربة إنسانية مرت في دروب المعرفة وتقتضي القول بملكة خاصة غير ملكة العقل المنطقي تقوم على اتحاد الذات بالموضوع وعلى الاشراقات والتجليات محل التصورات لأن المعرفة فيها وجدانية يصاحبها ظواهر نفسية وتهيؤات يتم التعبير عنها بالموسيقى أي السماع حسب التعبير الصوفي أو بالرقص كالمولوية الشهيرة..
وفكرة المتصوفة تقوم على نبذ العنف وحب الله لذاته وليس طمعاً في جنة أو خوفاً من نار.. فهي معرفة وحب متبادلين بين الله والانسان وكانوا ولايزالون يُسمون بعشاق الرب..
الصوفية والفن
تعود النزعة الصوفية في الفن إلى كتاب ألفه في القرن الثامن عشر كل من الفلاسفة الألمان نوفاليس وشيلنغ وهيغل بعنوان (أقدم مشروع للمثالية الألمانية).
وفيه تأسيس لمفهوم الرومانسية الألمانية ونزعة الفن الصوفية غير الدينية المثالية وقد تلقفها الشعراء كبودلير في الشعر المجرد ، ثم استلهم منها الفنانون التشكيليون كالتجريدية للفنان الروسي فاسيلي كاندنسكي والتكعيبية للفنان الاسباني بابلو بيكاسو والسوريالية لسلفادور دالي والتفوقية لمافيس وجميعها جوهرها التجريد وهو المبدأ الذي أرساه الفيلسوف الفرنسي جون فرانسوا ليونار بقوله:
قليلة هي الأشياء التي تُرى في اللوحة وكثيرة هي الأشياء التي تدعو إلى التفكير!
كانت أول وأشهر لوحة روحانية في الفن التشكيلي المعاصر هي لوحة كاندنيسكي 1866-1944 وهي عبارة عن لوحة مائية مجردة اسمها (خطوط بلا حدود).. مزدحمة بالتشابكات اللونية اللامتناهية والمتصاعدة حد التلاشي في عمق الفضاء الأزرق.. وهذا الفنان آمن بأن للألوان روحاً خاصة تعبر عن نوع من الموسيقى أو الرنين..
وتميز أيضاً بهذا الفن الروحاني بمفهومه الفلسفي الرسام الروسي ماليفيتش 1915 عبر لوحاته وخاصة لوحة المربع الأبيض والمربع الأسود ، وجاء اختياره للمربع لأنه شكل كوني واختار لونين فقط هما الأبيض والأسود لأنهما دلالة على اللامتناهي الذي لا قرار له..
وبلغت هذه النزعة أوجها مع الفنان الألماني بول كليه 1940 من خلال لوحاته التي تجسد الملائكة بأشكال متعددة الوجوه والمرايا وكان يقول:
أنا في هذه الدنيا فوق كل إدراك!
ولا يمكن إغفال بالطبع الفن الكلاسيكي في عصر النهضة فأغلب لوحات دافينشي وروفاييل ومنحوتات مايكل أنجلو حملت نفحات صوفية ولكن بالمفهوم الديني من حيث مثالية وجمال الخالق..
الفن التشكيلي السوري والصوفية
لا يتسع المجال للتعمق في التجارب كافة وذكر جميع الفنانين التشكيليين السوريين الذين حملت لوحاتهم رموزاً ونفحات صوفية شكلت مشروعهم الخاص في طرح مفهومهم لروحانية العالم ، ولكن ربما أشهرهم من المعاصرين كل من أدهم إسماعيل وأحمد برهو وأحمد الياس ومحمود جلال وبديع جحجاح وعزيز إسماعيل وعبد القادر عزوز وليلى نصير والخطاط منير الشعراني ومحمد غنوم والفنانة الشابة سلام الأحمد التي تجهد في هذا المجال برؤية فنية خاصة ومتميزة بروحانية اللون الشفيف اللامتناهي مع المطلق الروحاني.. ولعل من المهم جداً الإضاءة على تجربة الفنان السوري الكبير مروان قصاب باشي الذي أقام في ألمانيا لأكثر من نصف قرن وتأثر بفنونها لكنه طرح مشروعه بروحانية الشرق التي لم تبرحه وكان لمعرضه (الوجوه التسعة وتسعون) 2009 صدى كبيراً في إبراز التجربة الصوفية في الفن التشكيلي وذلك بتقديم وجوه بشرية بتجريد يقوم على الاختصارات في الملامح وزخرفة الخطوط المتأصلة في تقليد الثقافة الشرقية..
إن قراءة أعمال الفنانين السوريين هؤلاء تدلل على تأثرهم بالصوفية وتجمعهم القدرة على التقاط اللون بما يحويه من نغمات باردة ودافئة تكشف التناقض مابين الواضح والغامض – المادي والروحي- ثم يسود الصمت التشكيلي من خلال اللون الأبيض والأسود، وهما اللونان اللذان يرمزان للحرية الإنسانية ببعدها الكوني – الروحاني ، وبذلك تكون دائرة الألوان ضرباً من الصلوات..
وهكذا فإن الفن التشكيلي تبادل مع الصوفية التأثير والتأثر ليس فقط على مستوى العلاقة التاريخية والاشتراك في البعد الوجداني والفلسفي، بل تجاوزها إلى حد التشابه البنيوي من حيث الطقوس والدلالات المتعددة!