أغنية الأزمة تفجّر المشاعر والأحاسيس … الحرب على سورية وانعكاساتها على مفردات الأغنية السورية حتى في العشق
| سوسن صيداوي
الحروب وأزماتها لا تخلّف جهلا فقط بل أيضاً عنفاً. واليوم انعكاس العنف الذي نعيشه أصبح طاغيا في البلاد وصولا إلى الأغنية، التي تتنافس في الساحة الفنية وعلى المراتب الأولى في سباق الأغاني، والمشكلة بأن من يغنيها من أكثر النجوم السوريين شهرة في الوسط المحلي والعربي وحتى في المهجر، وأغانيهم وبجهود الشعراء والملحنين أصبحت تتصدر وتكتسح بمجرد نزولها على السوق، وباتت نظرة الحبيب الفتّاكة تُشبّه مثلا بغارة لطائرة أو لسلاح الدوشكا، أو يقارن فعل ابتسامة الحبيب الساحرة بفعل العبوة الناسفة، في أغان تلقى قبولاً شعبياً واسعاً. مشكلتنا ليست هنا ولكن المشكلة بأنه من خلال هذه الأغاني تتفاقم المشاكل بطريقة غير مباشرة ويسهم نجومها بانتشارها لأن لديهم من يحيط بهم من متابعين وعشاق، كما أنهم في حقيقة الأمر وبالمختصر المفيد أصحاب تأثير. في نقاط توضّح المطلوب في هذا المقال إليكم المزيد.
تخلخل الجيل وتصدّعه
مع السنة السابعة للأزمة والحرب التي عانى منها المواطن السوري نجده متخبطا ومتلاطما بين الأمراض النفسية والاجتماعية وحتى الجسدية، ومما يفيد بحثنا بأنه أصبح شائعا ملاحظة المعاناة في:تدني مستوى الاعتزاز بالنفس وانعدام الثقة بالذات، تعطيل الطاقات الإبداعية، العقلية، النفسية، الاجتماعية، الأكاديمية والعاطفية. بل أصبح أمراً عادياً عندما نسأل (كيف الحال؟) يأتينا الجواب (واللـه مكتئب/ة). هذا والأمر الواضح الانطوائية المنتشرة مع تزايد روح العدائية والقلق واضطرابات النوم والأرق والوساوس والخوف، وليس غريبا إن قلنا هنا إن الفئة الشابة أصبحت بمعظمها مصابة بأنواع الإدمان المختلفة، وللأسف ضمنها الكثيرون ممن يلحقون الأذى بأنفسهم.
وعند البحث نجد علماء الاجتماع يحددون أسباب المشاكل التي ذكرناها والتي أتت بسبب العنف، وهنا نقف عند العنف اللفظي أو الكلامي الذي هو حسب تعريفهم: استعمال عبارات مخلة بالآداب والأخلاق. وهو من إحدى النقاط موضوع بحثنا، إنه موجود سواء أكان المجتمع يعاني حرباً بأزمته أم لا، ويشير العلماء إلى أن هذه الظاهرة ترجع لأسباب اجتماعية وحضارية وثقافية وهي تختلف من مجتمع إلى آخر، ولكن هنا يحدد العلماء بأن تفاقم وانتشار هذه الظاهرة يأتي أولاً من الأسرة، فهي المربي الأول والأساس، لأن التوعية والتثقيف يبدأ من الأسرة والبيت مع نشأة الطفل، وتؤكد الدراسات أن للعنف اللفظي تأثيراً سلبياً مدمراً في الأطفال، فالأشخاص الذين تعرضوا لأي نوع من أنواع السباب خلال طفولتهم يصابون بالاكتئاب بنحو ضعفي من أولئك الذين لم يتعرضوا له. وفي دراسات أخرى تؤكد أن العنف اللفظي يترك آثارا وأضرارا نفسية أكبر من الأضرار الناجمة عن العنف الجسدي.
خطاب أغنية الأزمات
الكثير من المتابعين المعنيين بالكلمة واللحن يعتبرون أن ما يأتي اليوم على مسمعهم من أغان، هي بسطحية وفقيرة في الرشد أو في الوعي العام للحالة التي نعيشها في سورية الوطن، بل تأتي الأغاني كي تتعامل مع المواضيع والمعاناة اليومية، بسطحية ذاهبة إلى الانفلات والردح والهياج، هذا إضافة إلى التغني بحالات الإحباط بعد تكثيفها وتعقيدها وكأنها واقع مفروض وأبدي ولا يمكن لأي ظرف أن يغيره- وحتى برأي علماء الطاقة هذا أمر مرفوض-أو من خلال الإلحاح على الندب والتحسّر والرضوخ مع الاستسلام لكل ما هو سلبي في الحياة.
إذاً الأزمات والحروب تفرض خطابات، وهي اليوم مختلفة- ولأننا مستهدفون- العنف اللغوي كما أشرنا أصبح ظاهرا بشكل كبير في التداول اليومي والإجراء الكلامي، وهنا مكمن الخطورة فمجموعة المفردات تمس الشعور والتداول بين البشر عبر لغة الكلام.
المغنى حر
يأتي رواج ونجاح أي أغنية وانتشارها بين الناس وفي السوق، بسبب ما تحويه من ألفاظ تلامس الجمهور المصغي نفسياً وفكرياً وعاطفياً واجتماعياً، فهي قريبة منهم ومشابهة لهم، وليست غريبة عنهم بأي لفظ، إذاً هي تمثلهم. وعن انتشار ونجاح الأغاني التي تحتوي على ألفاظ عنف، يوعز الباحثون السبب بأنها تعكس الكبت في النفوس، كما تنفّس عن رغبة الفئة الشابة التواقة بالانتقام من الواقع المعيش الذي يصدم آمالهم وطموحاتهم وحتى أحلامهم على الصعد كافة. فمثلاً في أغنية المغني وفيق حبيب والتي تحمل عنوان(تهديد) يعبر الشاعر رياض العلي خلالها عن حبه الكبير لمحبوبته التي يتنفس أنفاسها وعيونه التي لا يمكنها أن ترى جميلة سواها، ولا يمكنه أن يعيش من دونها والأمر الذي يطلب منها أن تصغي له جيداً حيث يقول لها(اسماع ما رح عيد.. تهديد والله تهديد.. بيصير الي بريدوا مو إنت الي بتريد)، ويعيد ويؤكد إصراره وأنه لا مجال للنقاش في الحياة مع الآخر وكلمته وحدها هي الواجبة التنفيذ حيث يتابع(بحكي أنا وعليك بس تسمع). وبهذه الأغنية مع ألفاظها المتسلطة حتى في فرض الحب، لدينا بعض الأسئلة:هل هذا أسلوب للتحاور والمشاركة بأمور الحياة والحب، وهل فرض وجهة الرأي والسيطرة هي مفاتيح نجاح العلاقة التشاركية بين الرجل والمرأة؟.
وفي مثال آخر يعبّر الفنان حسام جنيد بأغنيته (صفر نفسيتي) وهي من كلمات نفس الشاعر عن المرارة والإحباط الكامن في حياته كلّها لهجر محبوبته له، الأمر الذي توقف معه كما يقول: (نبض القلب وصارت صفر نفسيتي)، ويتابع التململ بالأسى والمرارة (حياتي ما الها طعم.. خيّم ع قلبي العتم.. بدي من اللـه دعم تا ترجعلي شخصيتي) إشارة إلى السلبية والانهزامية التي يعاني منها شبابنا والاستسلام اليائس، وفي المقطع الثاني يقول(قلبك معي ما صدق… الحلم انسرق… شو ذنبي حبك الي)، هنا يرمي اللوم عليها، وحتى ليس لديه القدرة ليتحمل مسؤولية اختياره لهذا الحب، وهنا الطُعمة الكبرى والسؤال: لماذا نلقي اللوم على غيرنا دائما، ولماذا يكون مفهومنا الثقافي والسائد برمي المسؤولية على الآخر وبعدم تحملها؟. كما يختم المغني قبل أن يعيد اللازمة في الأغنية (وفيي.. والله قامت القيامة). إذا والأمر الواضح بأن كل من المغني والشاعر لم يلتفتا إلى السلبية المدمرة في هذه الأغنية، وحتى إن كل من نسأله عن حاله أصبح يرد (صفر نفسيتي) وكأننا نحتاج في هذا الوقت العصيب إلى اجتذاب السلبية بمشاعرها وأفكارنا أكثر مما هو مفروض، وكأن ظروف حرب أزمتنا السورية ليست بكافية.
وأخيراً يغني الفنان صاحب الصوت الواعد والاختيارات الراقية والمختلفة محمد المجذوب في أغنيته (تعبان) التي تسير من بدايتها في كلام مقبول يحكي عن غدر الحبيب، ويقول الشاعر رفيق بركات (شو زكرك فيي من بعد غياب سنين راجعة عم تدقي الباب.. روحي تركيني بحالي شو بدك فيي الجرح الي بقلبي بعده ما طاب.. تعلمت منك اجرح وما بنجرح.. حبك خسارة كان الي منّو ربح… وإذا قلبي بدو يرجع لقلبك ما بدّي اياه ومحلل للدبح). هنا التأثر بما نعانيه من عنف الأزمة واضح. وفي التداول الكلامي تصبح مفردة الذبح والموت مفردة قاسية وحدث لغوي عنيف يغتال المشاعر والعواطف للمتكلمين، ويدل على القسوة التي يعيشها المتكلم والتي لا تقل عن القسوة التي يتلقاها المستمع.
في النهاية
أقول لنجومنا الذين نحبهم ونتابعهم:أرجوكم امنحونا ابداعاً وأملاً وليس ألماً، حباً بعيداً عن أي نفاق، نحن اليوم نريد الخروج وليس البقاء في قاع مملوء بالرمال المتحركة للأنين والدمار النفسي والعاطفي المرعب.