فؤاد الشايب في مرآة صديقه عبد السلام العجيلي … الكاتب والإعلامي والسياسي الذي دفع أثمان مواقفه استهلكه العمل الوظيفي ولكنه كان رائد القصة القصيرة السورية
| إسماعيل مروة
فؤاد الشايب الكاتب والسياسي والإعلامي، جمع صفات عدة، كان بارعاً في كل صفة ولكنه لم يخلص لأي جانب من هذه الجوانب، واليوم بعد عقود على رحيله لا يأتي على ذكره مؤرخو الأدب والقصة كما يستحق، ولا يذكر دوره السياسي الثابت إلا نادراً ومن كبار السنّ الذين ما يزالون يستذكرونه، واليوم لا يذكره الإعلاميون، ولا تحيي الإذاعة السورية ذكراه وهو مديرها، بل أزعم أن عدداً كبيراً من الإذاعيين لا يعرفون دور فؤاد الشايب الإعلامي.. واليوم نستمع إلى خطب وتحليلات سياسية، ولا يعرف كثيرون أن من خطّ أهم الخطب والتعليقات السياسية لإذاعة دمشق هو فؤاد الشايب المُشْرب بالوطنية والسياسة والأدب.
فؤاد الشايب كاتب القصة الرائد.. عندما نعلم أن القصة السورية عاشت مراحل عديدة، وكان أوج ازدهارها في النصف الثاني من القرن العشرين نستطيع تحديد مكانة الكاتب القصصي الرائد فؤاد الشايب، فهو في أربعينيات القرن العشرين كان قاصاً مرموقاً، بل كان عضو لجان تقويمية وتحكيمية للقصة القصيرة، ولا يمكن لقاص أن يبلغ هذه المرحلة إن لم يكن مشهوداً له من الأوساط الثقافية.. وأما الشايب الإعلامي فقد ذكر معاصروه إسهامه في التحليل السياسي لإذاعة دمشق، إضافة إلى إدارتها إضافة إلى مهامه العديدة، بما في ذلك مكانته في القصر الجمهوري في ذلك الحين.
لماذا وقع الظلم على الشايب وأدبه؟
طبعت أعمال فؤاد الشايب في وزارة الثقافة السورية بعد رحيله وبعناية أستاذنا الدكتور حسام الخطيب، ولكن هل تعدّ طباعة الأعمال طريق إنصاف للأديب، أي أديب؟ من المؤكد أن الأمر يتجاوز حدود الطباعة، وقد نال فؤاد الشايب الظلم من جوانب عدة:
– ارتباطه بالسلطة، فقد كان منشئ خطب الرئيس القوتلي كما يذكر صديقه الدكتور عبد السلام العجيلي وهذا الارتباط قد يدفع الكثيرين إلى التوجس من المثقف ونتاجه.
– ارتباطه بالإدارة، فهو كان مديراً للإذاعة، ومن ثم صار أميناً عاماً لوزارة، بمرتبة معاون وزير في زماننا، والإدارة تسهم في تشويه صورة الأديب، وتخلق عداوات لا يد له فيها.
– تشتت اهتماماته وإنتاجاته، وعدم إخلاصه لفن القصة والأدب، وهذا شأن كل أديب ارتبط بالشأن العام، فيخسر الأدب في هذه الحال أديباً لمصلحة موظف يمكن أن يقوم بدوره أي شخص غير مبدع.
– عمله الذي اقتضى منه الاغتراب عن سورية وراء مهامه التي كلف بها، ما جعله غير مستقر للإبداع والانتاج الأدبي، وهذا ما يفسّر وجود عدد من الكتب غير المنجزة لفؤاد الشايب.
– آراؤه الوطنية التي لم تستطع أن تنحاز إلى فئة، فوجد نفسه وحيداً في وسط كبير، وهذه الآراء جعلت الشايب يودّع الحياة كرمى لها.
قرأت الشايب مبكراً، وأحببت أدبه لارتباطه بشخصيات التقيتها، وأخرى لم أحظ بلقائها، لكنها محل احترام ميلاد الشايب، كرم خوري، محمد رشدي الخياط، الذين دفعوني لقراءته وحبه، ومن حسن حظي أنني شاركت وبمشاركة لي مع الأستاذ الدكتور حسين جمعة في بلدته معلولا، وبمبادرة من أبناء معلولا، وبمساعٍ مشكورة من الصديق الذي رحل باكراً بشار مسعد الذي حرص على تكريمه في بلدته، وكان اللقاء يومها لائقاً بالشايب، واليوم وبمبادرة من وزارة الثقافة في مهرجان ريف دمشق الثقافي، ولأنني أنتمي إلى القلمون الذي أنجب الشايب والشايب وكرم خوري وجمعة وكل الذين رحلوا مع أنسام القلمون، والذين يتنفسون هواء القلمون اليوم أجدني مدفوعاً للعودة إلى الشايب وأدبه وإبداعه وحياته، وبعد إعادة قراءته وجدت أن أي حديث عنه وإشادة سيفهم على أنه مجاملة وتكريم، إضافة إلى أن أعماله لم تعد موجودة بين أيدي القراء، لذلك عنّ لي أن أعود لما كتبه عنه صديقي الراحل المبدع الدكتور عبد السلام العجيلي، وصديق الشايب الوفي، وراق لي أن أقف عند محطات عاشها العجيلي مع الشايب، وهي ذات جوانب أدبية وسياسية ودبلوماسية، وهنا أنصف ابن القلمون ومعلولا، وأستكشف خصالاً ربما لم يقف عندها بنفسه، وأخرى سيغض الطرف حياء لو كان موجوداً يسمعها.. فأكرم بوفي لوفي، وأديب لأديب، وصديق لصديق، وسوري منتمٍ لسوري يماثله.
فماذا قال العجيلي؟
أهم ما أقف عنده في كتب التراجم والسيرة غير الذاتية، وربما السيرة الذاتية عندما تتسم بالصدق والصراحة أنها تحوي ما تغفل عنه الكتب الأخرى، وفيما يتعلق بمكرمنا الأستاذ فؤاد الشايب فأزعم أن جوانب عدة من شهادة العجيلي لا نجدها إلا عنده، ولو أراد الشايب نفسه أن يقولها لاستحى من كتابتها، وسنرى أمثلة تكريم الصديق لصديقه.
في الجانب الإبداعي القصصي
رحل الشايب، ولم يكن العجيلي مضطراً لمجاملة، أو لقول كلمة ليست حقيقية، ولكنه وضع للتاريخ والأدب شهادة من الصعوبة أن يدلي بها كاتب في آخر إن لم يكن بالمستوى العالي أدبياً وإنسانياً، وها هو العجيلي المتخم بالوفاء وبالإنصاف، وهو لم يعط شهادة لأحد إن لم يكن مستحقاً، يتحدث عن الشايب، فهو كاتب القصة الأول، وهو الكبير، وهو الذي ترك أثراً على قلة ما أنتجه وطبعه في غمرة انشغاله.
«كان كاتب القصة الأول في سورية، لا منازع في ذلك، لم يخلف لنا هذا القاص الكبير كتباً كثيرة، ولكن كل قصة في مجموعته اليتيمة (تاريخ جرح) كتاب قائم بذاته، مضى ربع قرن منذ صدرت هذه المجموعة ما زلنا إلى اليوم نذكر قصصها القصيرة.. قرأناها في مستهل شبابنا وما زال أثرها باقياً في وجداننا الغني إلى اليوم.
هل من السهولة أن يطلق شخص اعتباري، وله مكانته الأدبية مثل العجيلي حكماً لا يحتمل أي تأويل أو تحوير، فالعبارة لا لبس فيها «كاتب القصة الأول في سورية» ولم يردف قوله هذا بأي حكم قيمة أو عبارة تؤخذ عليه، فالريادة هي الجانب الذي اعتنى به العجيلي، أي إن فؤاد الشايب هو الأول ريادة في القصة القصيرة الناضجة التي بلغت الصيغة الفنية في القص وفنه.. ويدلل على مهارة الشايب، بأنه لم يكن يكتب القصة العادية التي وصلت إليه، بل وصل غاية أبعد، وحصل مكانة فنية، فالقصة التي مضى على كتابتها عند فؤاد الشايب أكثر من ثلاثة عقود تركت أثراً راسخاً وقوياً، وتملك كذلك مقومات الحياة إلى اليوم حسب تعبير الدكتور العجيلي، ونحن اليوم إذا أردنا أن نقوّم أو نتحدث عن القصة السورية، فإن تاريخ جرح للشايب في الطليعة، وقد درس ذلك باحثو الأدب والقصة القصيرة السورية كما فعل الدكتور حسام الخطيب وسواه، وقد أهملوا تجارب أخرى، لأن الشايب كما يقول العجيلي أثّر في الوجدان الفني، وهذه إشارة إلى القصة الناضجة فنياً وهذا أهم.
في الإنسان والقناعات
كان الشايب موظفاً في القصر الجمهوري، وكان منشئاً لخطب الرئيس القوتلي، وكان مديراً للإذاعة، وهذا ما جعله هدفاً لأول انقلاب حدث في سورية، والمتوقع من الموظف إذا كان مجرد موظف أن ينفذ الأوامر، وللشايب قصة أطلق عليها العجيلي سمة الوفاء، وهي في الحقيقة وفاء الشايب لقناعاته أكثر من وفائه للرئيس الذي كان قريباً منه، ولنقرأ ما قاله العجيلي:
«في منتصف ليل الإثنين من آذار 1949» دوهمت دار فؤاد الشايب في شارع العابد، حارة شرف، في دمشق، ونقل صاحبها في حراسة عسكرية إلى حيث كانت القيامة قائمة.. كنت وفؤاد الشايب آنذاك جارين، نسكن في عمارة واحدة. فكان اهتمامي به وقلقي لغيابه كصديق وجار ينضافان إلى اهتمامي وقلقي كعارف بمركزه الأدبي ومكانته الثقافية.. عاد صحيح الجسم، ولكن ساهم الوجه حزين العينين و.. حليق الرأس؟
اقتيد الشايب إلى حسني الزعيم فأصدر هذا أمره إليه بأن يعد بلاغ الانقلاب وأن يتكلم في الإذاعة معدداً سيئات العهد الذي مضى، وحاملاً على سيد ذلك العهد. وكان على فؤاد الشايب أن يلبي ذلك الأمر. لقد فعل بطرس الرسول ذلك قبله وأنكر سيداً أعظم من شكري القوتلي بكثير ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك.. لكن فؤاد الشايب الكاتب والمفكر والقاص والفنان لم يلبّ الأمر لهذا أسمع من لسان الزعيم السليط قوارص الكلام، ولهذا حلق شعر رأسه، وألقي في الزنزانة في انتظار ما هو أدهى..».
كم من الأشخاص يمكن أن يفعلوا هذا الفعل؟ وكأن العجيلي يعيش معنا اليوم ويرى الناس الذين يشار إليهم بالبنان، وهم ينقلبون بين عشية وضحاها لغايات آنية، لذلك أراد العجيلي أن يكون بعيداً في حكمه، فاستشهد ببطرس وانقلابه ثلاث مرات حتى صاح الديك، ولكن الشايب لم ينقلب على قناعاته، ولم يغير فيها شيئاً على الرغم من سجنه وتعذيبه، وانتهى الأمر به إلى صورة مؤلمة ويتعجب العجيلي منها، لأنها أقسى من التعذيب، وهي أنه صار حليق الرأس، فالانقلابي العسكري عاقب الأديب عقوبة عسكرية، وكانت هذه العقوبة وساماً على رأس الشايب مرافقاً لغصته وحزنه.
وجميل أن يدوّن العجيلي هذه القصة، لأنه قال: إن الشايب لم يكتب هذه القصة، وكتبها العجيلي دلالة على الوفاء، وعنونها بالوفاء.
الشايب والحياة الأدبية
بدأ الشايب حياته أديباً، بل إنه من القاصين الرواد الذين أسهموا في تنشئة القصة السورية، فبعد أن وصلت القصة الفنية الحديثة إلينا من الغرب ظهر جيل من كتاب القصة العرب، وخاصة في مصر، وبدأت التجارب التي خلطت ما بين القصة في التراث العربي والقصة الفنية الحديثة، ولكن التجربة الفنية اكتملت على يدي عدد من الكتاب المبدعين فكان في الرواية شكيب الجابري وحنا مينه، وكان في القصة عدد من الكتاب يتقدمهم فؤاد الشايب، وحتى نكون بعيدين عن الإنشاء نقتبس شهادة العجيلي القاص:
في عام 1943 كنت آنذاك طالب طب في جامعة دمشق، فازت قصتي (حفنة من دماء) بالجائزة الأولى في مسابقة أقامتها مجلة الصباح الأديبة الدمشقية، وكان فؤاد الشايب مقرر اللجنة المحكمة في المسابقة.. فوزي بهذه الجائزة لفت النظر إلى.. ككاتب قصة.. حين عرفت فؤاد الشايب لأول مرة كان صاحب اسم راسخ في عالم الأدب في سورية ولبنان، كما كان في القصة القصيرة الفتى المبدع الذي أعطاها عنفوانها وهويتها العربية السورية بعد طول حبو وتعثر.
لو كان العجيلي ناقداً فإننا ننظر إلى شهادته بصورة مختلفة، ولكنه قاص وروائي، ومع ذلك فإن إنصافه ومكانة الشايب دفعاه إلى تدوين شهادة مختلفة، فحين تقدم العجيلي لمسابقة في القصة مبتدئاً كان الشايب علماً وحكماً وصاحب اسم ترسخ في الفن، ولعل خير ما يمثل مكانة فؤاد الشايب قول العجيلي: أعطاها عنفوانها في عالم الأدب وهويتها العربية السورية بعد طول حبو وتعثر.. ولا يعرف أهمية هذا الأمر إلا من طالع تعثر الأدب السوري عموماً، والقصة ضمناً، في إطار البحث عن خصوصية سورية.
بين الإبداع والوظيفة
لم ينكر العجيلي الدور السلبي الذي أدته الوظيفة في حياة الشايب المبدع الذي كان مخلصاً في وظيفته، وتدرج في وظيفته إلى مراتب عليا، وأثقل ظهره وحياته في العمل الوظيفي وكل ذلك في سلامة واستقامة، مع أنه كان مجبراً أحياناً لاتباع بعض الطرق التي لا يؤمن بها والتي تفرضها عليه الوظيفة، وفي هذه التهمة الوظيفية مماهاة وممازجة بين المبدع والموظف، بل بصيغة أكثر وضوحاً لما هو عليه الآن، ولم يكن يومها واضحاً المماهاة بين المثقف المبدع والسلطة: «لقد بلغ فؤاد الشايب في الوظيفة مراتبها العليا، وهي مراتب كانت وظلت بالنسبة للقطاع الأكبر من متعلمي بلادنا هدفاً مرموقاً تبذل من أجله الجهود ويفنى فيه العمر، ولكن ما من إنسان عدت عليه الوظيفة خسارة أو حسبت عليه مأخذاً مثل فؤاد الشايب. نحن أصدقاءه، رأيناها عبئاً أثقل ظهره، وقيداً حال بينه وبين الإبداع الذي كان يجب أن تفجر به موهبته الأدبية وثقافته الواسعة وتحرره الفكري. أما الذين لا يجدون فيه مطعناً إلا أن يقولوا عنه إنه «موظف» ويأخذون عليه طواعية الموظف ومسايرته واضطراره إلى سلوك سبل قد لا يؤمن بسلامتها أو باستقامتها». يتأسف العجيلي لأن الشايب أعطى عمراً كان من المفترض أن يعطى للإبداع، ولكنها الحياة وتبعاتها والتزاماتها، وهذا الأسلوب من الحياة قد يفرض على المبدع الموظف أن ينحي إحساسه الإبداعي المرهف من أجل عمل وظيفي.
الشايب وقناعاته
لم يكن العجيلي مضطراً لمجاملة الشايب أو غيره من الذين عاصرهم، ولكنه وهو الذي يعترف بأن الشايب بمنزلة الأستاذ، ومن ثم الزميل، ومن ثم وكيل الوزارة الأمين مع العجيلي يقف أمام الشايب ومواقفه موقفاً يسجل لكليهما، فنحن أمام شخص مختلف هو فؤاد الشايب، الذي قد يضطر في عمله الوظيفي إلى فعل أو تصرف يجافي الحس الإبداعي، لكنه في المواقف لا يتخلى عن موقفه، بل هو صاحب موقف يذكره العجيلي ويشكره ويدونه ويدون مواصفاته للأجيال القادمة بغية التمثل في كل موقع عمل فيه الشايب سواء كان فكرياً أم وظيفياً أو دبلوماسياً.
«يرفض ما لا يرتضيه من دون جلبة أو ضجيج.. اعتدي عليه في أحد أحياء دمشق في أول شبابه لأنه كتب في جريدة الأيام مقالاً أدبياً رفض فيه قيود الطائفية البغيضة.. وحين حبس وعذب لأنه رفض تلبية أمر أصدره حسني الزعيم.. وآخر مرة حين رفض الحياة الهينة اللينة كموظف دبلوماسي.. فاعتدي عليه وهو يدافع عن حق أمته المستضعفة في بلاد قصية أهلها عون للظالم، بعيداً عن الأهل والنصير.. وفي هذه المرة الأخيرة كلف الرفض فؤاد الشايب حياته وكلفنا نحن حياة فؤاد الشايب، اعتدي عليه وهو يخطب على منبر في عاصمة الأرجنتين، فسدّ ذلك الاعتداء شرياناً في قلبه، ولما تماثل للشفاء عاود الكرة فعاوده الداء.. حتى جيء به إلى سورية وإلى قومه الذين ضحى لهم بقلبه، جسداً مسجى..».
أهم صفة يسجلها العجيلي للشايب أنه صاحب موقف هادئ لا يسعى إلى ضجيج واستثمار لمواقفه، ويعدد العجيلي لذلك بعض مواقفه، فهو يقف ضد الطائفية، ومن أجل ذلك تعرض للتضييق، وهو يرفض أن يتخلى عن تاريخه ومبادئه، لذلك سجن أيام الزعيم، وهو صاحب قضية عروبية لذلك اعتدي عليه في الأرجنتين.
لجأت إلى قراءة الشايب في مرآة العجيلي لزعمي أن كتب التراجم والسيرة هي الأصدق في تصوير دقائق حياة الأشخاص والأمم، وفؤاد الشايب من الشخصيات السورية التي تستحق أن نقف عندها باستمرار لنتعلم ونحذو حذوها.