ما بعد اتفاق فيينا
| عبد المنعم علي عيسى
مثّل صعود النازية إلى سدة السلطة في برلين عام 1933 حالة نهوض قومي متعصبة، وقد استندت في نهوضها على إيقاظ مشاعر التفوق عند الألمان ثم إثارة الإحساس بالظلم الذي تعرضت له بلادهم منذ أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها 1918 باعتبارها كانت أحد الأطراف الخاسرة في الحرب.
سريعاً ما استشعرت أوروبا الخوف فقد ترافق إيقاظ تلك المشاعر ببناء مؤسسة عسكرية عملاقة ثم لم يلبث أدولف هتلر أن عمل على تغيير عقيدتها العسكرية، وفي الغضون كانت الخيارات الأوروبية تضيق والكل ساعٍ نحو درء الحرب أو عدم وقوعها، ولذا فقد عملت عواصم القرار على إرضاء الزعيم الألماني حيث وقعت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في العام 1938 اتفاقاً يضمن لألمانيا ضم إقليم السوديت التشيكوسلوفاكي ذي الأغلبية الناطقة بالألمانية، ثم لم يلبث رئيس الوزراء البريطاني نيفل تشمبرلين أن قرر زيارة برلين سراً في مطلع العام 1939 خطباً لود هتلر وطلباً للسلام، لكنه لم يكن يدري أن خطواته تلك في طلب السلام كانت هي نفسها الخطوات التي دفعت نحو الحرب، فاستجداء السلام لا يمكن للخصم أن يفهمه إلا انطلاقاً من الوهن الذي يعانيه المستجدي، ولذا فإنه غالباً ما يضع اللمسات الأخيرة على إصدار قرار بإعلان الحرب، وهو ما حصل فعلاً فقد قامت القوات الألمانية باكتساح بولندا في أيلول 1939 ثم اتجهت نحو فرنسا التي اكتشفت أن خط ماجينو لم يكن سوى الوجه الآخر للغفلة، واللافت هو أن سياسات خطب ود الزعيم الألماني لم تندثر برغم كل ما قام به وهو كان كافياً لتقدير ماذا يريد هذا الأخير ففي أعقاب اكتساح الألمان لباريس اتصل الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين بالزعيم الألماني مهنئاً إياه ومراهناً على إمكان خطب ود هذا الأخير، وهو لم يتخل عن رهانه إلا بعدما تساقطت قذائف المدفعية الألمانية على مدينة «ريغا» على الحدود السوفييتية الألمانية في أيلول 1940.
منذ أن أعلنت طهران في آب 2005 عن استئناف تخصيب اليورانيوم يمكن القول إنها قد وضعت في دائرة الاستهداف الأميركي والغربي على حد سواء، وعلى الرغم من أن جولات المفاوضات لم تنقطع على مدى عقد كامل إلا أن الحرب كثيراً ما أطلت برأسها قبيل أن يجري الإعلان عن توقيع اتفاق فيينا في 14 تموز 2015 ما بين طهران و«مجموعة 5+1» وفي مطلق الأحوال فإن الاتفاق الأخير لم يكن يعني قراراً بتغيير الغرب لمساره أو وضع حد لاستهداف إيران الدولة والنظام، إنما كان الاستهداف بطريقة مختلفة على الطريقة «الأوبامية» وهي الطريقة نفسها التي تم تحقيق اختراقات كبرى في المنطقة عبرها، وعندما وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني 2017 قرر هذا الأخير العودة إلى طرق الاستهداف المباشرة فشن هجوماً على الاتفاق واصفاً إياه بأنه أسوأ اتفاق في التاريخ قبيل أن يعمد في 8 أيار إلى إعلان انسحاب بلاده من ذلك الاتفاق.
لم تكن المخاوف الأميركية تنطلق من إمكان وصول إيران إلى صناعة سلاح نووي، والقصة باختصار هي أن طهران لا تكتفي بمواجهة المشاريع الأميركية في المنطقة بل وتقوم بدعم دولها في مواجهتها أيضاً، لكن في الأمر شيئاً آخر، فوصول طهران إلى إتمام دورة اليوارنيوم سيعني دخولها في العصر النووي، الأمر الذي ستكون له تداعياته وانعكاساته على مختلف مجالات العلوم والتكنولوجيا والصناعة في الداخل الإيراني.
الآن أما وقد أعلنت واشنطن عن انسحابها من الاتفاق سيكون من الخطأ التعويل على وجود تمايز حقيقي بين الموقفين الأميركي والأوروبي، وربما كانت العملية برمتها لا تعدو أن تكون تبادلاً للأدوار، ولا يمكن بحال من الأحوال الرهان على إمكان تعمق الشرخ الأوروبي الأميركي تجاه أزمة من هذا النوع، فيما يمكن القول إن إيران اليوم باتت أمام خيارين اثنين أولهما هو أن تتأقلم مع سيل العقوبات التي ستتتالى، وهي في نهاية المطاف ستؤدي إلى حالة تآكل ذاتي داخلية، ومن الخطر هنا ترديد القول بأن الحصار الغربي قد أدى في السابق إلى تحفيز الداخل والنهوض انطلاقاً من هذا الأخير، فالحصار بعد الآن سيكون مختلفاً وذا طبيعة مغايرة تماماً وهي تدرك مواطن الوجع.
وثانيهما هو أن تذهب إلى خيار المواجهة ولدى إيران الكثير مما يمكن أن تواجه فيه فاستجداء الرضا الأميركي، والغربي لاحقاً، لن يكون سوى المدخل إلى إعلان الحرب عليها.