سبات الشرق
| د. نبيل طعمة
عمل العالم الأول بإصرار على إبقائه كما هو من أجل استمراره، لأنه وجد فيه حياته، بقاءه واستمراره، لذلك اجتهد كثيراً على تأصيله بشكل رئيس، بعد أن عمَّق فيه مبدأي الروح والعاطفة اللتين تغذيان مفهوم الاتكالية، وهذا يكون أيضاً بتعزيز اجترار الماضي والارتكاز عليه، فالتمسك بالتضاد نتاج انحسار قيم الوعي، وعالمنا يحيا ضمن مساحة تملؤها الغرابة.
فكرنا لم يؤمن بالاختلاط أو التمازج، ليبقى حزيناً كئيباً متحفزاً للاقتتال حتى الموت والتذابح بالتكبيرات، عالمنا يشتري الموت بالجهاد، ولا يسعى للحياة، ألف عام وبضع مئات السنين لم نصل إلى الهدف، لأن مشاريعنا الفكرية ملهيَّة بالحروب والاقتتال، والتحضيرات مستمرة لخوضها، أي إن الهدوء يحمل معنى الاستعداد للانتقال إلى العالم السفلي، حيث فيه تجري الحوارات بين الموتى الذين يسألون: لماذا وصلنا إلى هنا؟ ولماذا اغتربنا عندما كنا على السطح؟ لماذا كفَّرنا بعضنا، وابتعدنا عن جوهر الثقافة والإبداع والجمال والفكر؟ من أسكن فينا أنَّ المكون الكلي المحيط السرمدي يؤيد قتالنا.. جهادنا، ويرضى عن اختيارنا للتخلف والجهل؟ من قال إنه يبتسم لأفعالنا؟ مئات القرون ونحن على هذه الشاكلة، أي إنَّ الطبع السائد في كامل الشرق يظهر ذاته، معلناً أنه متمسك بذاته.
الخمسون سنةً الأخيرة أظهرت تمردات واقعية ومنطقية، اخترقت طبع الشرق، وتحركت إلى الأمام، حاولوا اصطيادها دفعة واحدة، أو بضربة خاطفة، وأهمها كان الذي حصل في سورية عبر اتخاذ شعار البناء الحديث، ومن ثمَّ التحديث والتطوير، ومعها كوريا الشمالية التي سحبت البساط من تحت مفهوم الغرب، وبشكل خاص الأميركي، أيضاً نجاح الثورة الإسلامية في إيران واعتمادها أساليب التطوير السريع من تحت العباءة الإسلامية التي تحافظ العلمية الإيرانية على شكلها، فالغرب يرسم العمر الفني لدول الشرق أو لعالم الجنوب، وعند وصوله يعمل على مكبّ الطاولة، طبعاً تكثر الشبهات كلما تناسلت المذاهب والطوائف، وتعدُّد الطرق والطرائق يؤدي إلى ضياع الحق؛ بل أكثر من ذلك علم الحقائق، لنجد هذا مزهواً من الأرائك، وذاك يدعو للانحراف من دون أن يدري بما يحصل، العارفون وحدهم بهذا أو ذاك غير واثقين.
الإنسان لا يساوي شيئاً من دون أرض، فالأرض روحه، فيها كنوزه، وعليها نتاجه، وهي صورته واسمه الأزلي، لماذا أقول هذا؟ لأن الذي يجري تحت الطاولة غير المشاهد عليها، وبعيد جداً عمّا فوقها، طبعاً لا يستطيع الكثرة أصحاب السبات الوصول إلى دقائقها، لذلك نجدهم يتحدثون عن الاستسلام والخضوع لقوى الغرب، وحاملو مبدأ النهضة يفعلون من دون أن ينبسوا ببنت شفة، يعملون بصمت، يتألمون بعنفوان، لكنهم حقيقةً رابحون.
إلى متى يسود سوادنا السُبات؟ يجلدنا التخلف، ينهب فكرنا الغيبي، من دون الاتجاه لربطه بالعلم الذي يوصلنا إلى الجوهر، محدثاً الإيمان بالشيء الذي لا يعود شيئاً؛ أي إنه يغدو معرفاً.
أرجو أن ندقق في هذا.. ترانا لماذا نتمسك بنفي الوثائق، ونتمتع بالصور المحزنة، من دون وعي لحاجتنا الماسة التي تدعونا إلى امتلاك التكوين العاقل وبنوده السياسية والاجتماعية والإدارية التي توصلنا إلى الانتظام الاقتصادي بعد تكوين الفكر القضائي المستند إلى الوثيقة والمستندات الدالة على الجريمة، وبعد التحري للوصول إلى قيمة ومعنى نطق الكلمة الحاكمة؟ هل هناك من استفاقة لهذا الشرق الذي بهت وميضه، وغدا كالأموات، يحاكي بعضه في العالم السفلي؟ كيف بنا نستغرب الحاصل قبل أن ندرك مفهوم استشراقنا؟
برأيكم: هل نستطيع النهوض قبل أن ننقضّ على واقعنا الفكري؟ كيف بنا نبدأ حراكاً بالسلبيات العالقة في أذهاننا، ونحن نصرّ على عدم التخلي عنها؟ بعد كل هذا الزمن نجد أنفسنا في لحظة اعتراف منطقي أننا لم ندرك، ولم نتململ من سكوننا، ولم نتعلم كيف نقف أمام مرآتنا.
لنحاسب أو نسأل ذاتنا، أو حتى نقف حداداً على قبورنا التي تنتظرنا بفارغ الصبر على اعتبار أننا أمواتٌ أحياء، ننتظر انتهاء المسافات، نحمل أجسادنا بالصريخ والعويل والدموع المالحة والوجوه المكفهرّة؟!
أتحدث عن الشرق وسباته بعد أن غادرته الأنوار، ولأننا لا نحشد قوانا إلا على بعضنا، ولا ننتصر إلا لقبيلتنا، أو عشيرتنا، أو طائفتنا، أو مذهبنا، ولم نصل حتى اللحظة للانتصار للقائد الجامع اللامع، وإن حدث ووصل سعى الجميع إلى إسقاطه، وتكالب عليه محيطه والكثير من أبناء أرضه، حتى وإن كان في هذا سقوطهم جميعاً.
دققوا معي في المشهد واقرؤوه بعمق، وتابعوا معي فإنكم ستجدون أن إرادة الجميع دخول النفق، وحينما نعلق فيه نذهب للبحث عن الشمعة التي توصلنا إلى المخرج، أو ننتظر المخلص الأسطوري.
ثماني سنوات جسَّدت الحرب على التقدم والتطور والإصلاح والنهضة، توقف خلالها كل شيء إلا الجنس والإنجاب والقتل والموت، وظهر تجار الأزمات ودورهم المعزّز لاستمرارها، ما الذي يجذبنا إلى الظلمة؟ هل يعقل أن نبقى هكذا؟ مؤكدٌ أن هذا غير واقعي ولا منطقي، وأن الاستفاقة حاصلة لا محالة، بشرط أن تكون المرأة قد عرفت كيف تحرر نفسها، وجدولت مطالبها، وبنَّدت حقوقها، وأيضاً وصل الجميع إلى مفاهيم ومعاني الاستقرار والأمان والسلام ونظم العيش وثقافة الشراء والاستهلاك، وأن العمل وحده وبه نصل إلى المبتغى، والإبداع يأخذ بنا إلى الحضور بين الأمم، والفكر يرسم هويتنا الوجودية والمعرفية والثقافية، ومن كل ذلك نصل إلى أنّ الدين، أيّ دين، هو حالة إيمانية عميقة لا مظهرية ولا شكلية أو إشكالية فيه.
في هذا الشرق جغرافية اسمها سورية، دينها دين الله، خان بعضهم هذا الدين، حاولوا فك هذه العلاقة الإيمانية، فجرى ما جرى لها من دمار وخراب وقتل وشهداء وجرحى من الضفتين، لأن النهر لا يسير إلا بضفتين، فكيف به إذا كان يمتلك الضفاف، أجزم أنها وأقصد سورية وجدت الشمعة، ووصلت إلى نهاية النفق، وها هي تستعد للنهوض، والفرصة أمامها كبيرة، وربما تصل إلى الخمسين عاماً، لماذا؟ لأنها الشرق، ولأنها غناه الفكري والقيادي العلمي والعملي.
أيها السادة أنا لا أبالغ، لأن ما أنشده ألا يبقى العامة عالة على الخاصة، وخلال سني الأزمة، كتبت مما امتلكت من المعرفة، أن كل خمسين عاماً تنقلب المنقلة على رأس شعوبها، وهذا يخص مجتمعات عالم الجنوب المقاد من عالم الشمال، حيث يعتبرون أن العمر الفني لعالمنا هو خمسون عاماً، فالفرصة الآن جدُّ مواتيه، لأننا قدرنا على الثبات، وتجاوزنا السبات، وها هي الفرصة تتحرك من جديد، كي ندخل جميعاً معترك البناء والإعمار، وأجزم أن المحنة المؤامرة التي وقعنا في أشراكها في نهايتها، وأنها أخذت العامة في جريرتها، فلنتمسك بالنهوض، ولنتعلق به بكل ما أوتينا من قوة، ولنكن كما كنا أصحاب نهوض الشرق وتقدمه، الفاعلين الراسمين لنهضته من جديد.
إنَّ الذين ثبتوا ورسخوا وكابدوا الآلام، وتحملوا الجراح، وقدموا الشهداء يستحقون الحياة، لأنهم عرفوا كيفية إدارتها، فهذه الأيام أيام يقظة، لا سبات فيها ولا استرخاء، هذا الدمار الذي وصلنا إليه من فعل السبات انتهى، فالحياة تنادينا بقوة.
ثقوا بالله ثمَّ بالقائد الرئيس وبفكركم وسواعدكم، فإنكم قادرون على تحقيق الإنجاز الذي يشبه الإعجاز، وأنتم شعبٌ خلاق، تعرفون تماماً سبل العيش التي توصلكم إلى الحياة.