ثقافة وفن

الثقافة والتكنولوجيا… صراع أم تعاون؟

| أحمد محمد السح

تتلاحق عمليات التطور التكنولوجي اليوم ونشعر بها تتغير من حولنا وتنعكس على حياتنا وإن يكن بنسب متفاوتة إلا أن مستوى التسارع والتقدم التكنولوجي بات أمراً يقفز قفزات واسعة لم يعد ممكناً تحديدها بخمس سنوات كما كان هذا الأمر سابقاً؛ حيث كان مستوى التقدم التكنولوجي يقاس بمعدل خماسي أي كل خمس سنوات تحدث قفزة تكنولوجية، وهذا اتُفِق عليه في بداية القرن الحالي لكنه لم يمضِ عقدانِ حتى أصبحت هذه المعلومة غير صحيحة وصار مستوى التقدم أقصر من خمس سنوات.
يجد بعض الراديكاليين ثقافياً أن التكنولوجيا وتطوراتها باتت تهدد الثقافة، ويقولون بلغتهم التي كانت مغرقة في فصاحتها إن التكنولوجيا باتت مشكلة وإنّ على الثقافة أن تلبس عباءتها لمواجهتها، وابتدعوا سؤالاً جدلياً مغرقاً في تخوفاته ومتاهاته، حيث ظهر إلى الملأ قبل مدةٍ تزيد على عقد وهو: هل يستطيع الكمبيوتر كتابة الشعر؟ وكأن الهدف منه كان تسفيه هذه العاصفة الحاسوبية التي اجتاحت العالم، لكن راديكاليي التكنولوجيا استقبلوا الفكرة وذهبوا في سباق التحدي وبدؤوا بدراسات اعتمدت فرعاً من فروع علم الذكاء الصنعي هو الذكاء العاطفي واعتمدوا عمليات برمجية ارتكزت على مفاهيم لغوية تعتمد وجود قواميس دلالية تكنولوجية تعتمد بنية برمجية لإنتاج نصوص أدبية تسعى تجاه الشعرية وقد نفذت عدة تجارب منها اعتبرت معقولة لكن أغلبها تم إتلافه.
عندما اكتشف العالم هيرتز الموجات الراديوية اعتماداً على ما كان معروفاً حول عمليات التوصيل الكهربائي راح العلماء يجربون أجهزة الإرسال والاستقبال وبعد حوالى عشرين سنة اكتشفوا أن هذه الموجات يمكنها أن تعبر مسافاتٍ طويلة، لكن التوجه كان أن هذه الموجات تستطيع أن تستخدم كبديل للتلغراف أو التلفون السلكي، هنا استثمرته المؤسسات العسكرية لأنها أكثر من يحتاج الترميز وبدأ التطوير في ظل المصالح الموجودة لكل مؤسسة، وبعدها ظهرت الحاجة إلى إيجاد وسيلة ترفيه وتسلية في البيوت فكان للراديو البعد الاجتماعي والثقافي، حيث لعب دوراً مهماً في هذا الاتجاه مع أنه لقي اعتراضاً من الشركات التي تعتمد التقنية نفسها لنقل الرسائل ظناً منها أنها إذا عملت على تتفيه دوره ستقف في وجهه، كما أن استخدام التقنية في اتجاه اجتماعي سيؤثر في مستوى استخدامها في الأدوار التشفيرية والعسكرية وغيرها. لكن رغم ذلك فقد حكمت الإذاعات العالم ثقافياً ردحاً لابأس به من الزمن. كما يمكن تعميم هذه الحادثة التكنولوجية مع حالة البث عبر الأقمار الصناعية والكابلات وتقنيات الإنترنت.. وكل ما تلاها من تكنولوجيات متلاحقة وسابقة.. الهدف التكنولوجي العلمي البحت لم يكن يقصد التوجه الثقافي للفكرة إنما التوظيف للتكنولوجيا لأهداف الثقافة جاء بناء على حالة علمية كان لها أغراضها الخاصة ومصالحها المتنوعة، أضف إلى وجود غرضٍ مهم ذي بعد سياسي واقتصادي بالدرجة الأولى ناجم عن رغبة الشركات الرأسمالية في زيادة عمليات التسويق واستثمار التقنيات العلمية بشكل دائم لتقتحم البيوت وتصل إلى كل شرائح البشر لا أن تحتكر في يد متخصصة محددة، لأنه لو تركت أي تقنية مقتصرة على المختصين لما تنامت ولما عرف بها معظم البشر. لكن الأسئلة التي يطرحها المثقفون سابقاً والتي تستحق الوقوف عندها وهي أسئلة وإن بدت رافضة إلا أنها تعبّر عن مشكلة السلاح ذي الحدين القديمة الجديدة، فكل مثقف يتساءل دائماً عن كم النفايات التي يتم بثها عبر هذه التقنيات السهلة الاستخدام والتي توظف ثقافياً ثم تذهب إلى الاستهلاك وبث النفايات، ولا نحتاج إلى الكثير من الثقافة والفصاحة للحكم على كمّ الإذاعات المبتذل وما تبثه من مساوئ وأحقاد.. وقس على ذلك في التلفزيون والمواقع الإلكترونية واليوم نعيش نحن في عصر التواصل الاجتماعي حيث السموم البشرية تنتقل ليتحول كلّ منا إلى فايروس عدوى ينتشر عبر هذه التكنولوجيا السهلة التي لا حدود لها ريثما تنتشر تقنيات جديدة نحن موعودون فيها خلال العامين المقبلين، فكم شاعر ظهر عبر الفيسبوك؟ وكم إعلامي يعمل بالمجان عبر إذاعات رخيصة لا تقدم سوى ملء الأثير بالتفاهة؟ وكم تلفزيون حرض على القتل والذبح والعنف وكان وكيل أجندات الموت والأمراض؟
ما يجب الانتباه إليه هو حالة «حتمية التكنولوجيا» فالتكنولوجيا مستمرة ومتنامية ولن تقف عند رغبة الاكتفاء بما لدينا ولو أنها ليست حتمية لتوقفت منذ سنوات، وبالمقابل سنتفق على «أزلية الثقافة» فالعقل البشري الخلاق متنام ومتطورٌ وهو يبث الأفكار الإبداعية ويبني عليها عبر العصور فكثيراً ما يكون الفن والأدب والخيال منطلق التكنولوجيا، فعلى سبيل المثال فإن أحد شيفرات الترميز المنطقي في الحاسب ابتُكِرت من آلية ظهور واختفاء الممثلين في عرض مسرحي كان فيه أربعة ممثلين يظهر منهم ثلاثة ويختفي الرابع، فلا ظهور لأكثر من ثلاثة ممثلين في آن واحد على الخشبة. والأمثلة كثيرة ومتنوعة ومن ثم بين الحتمية والأزلية لا بد من اعتماد صيغة التوظيف للتقنية للأغراض الثقافية من المثقفين والتوجه إلى عدم الدخول في متاهات التدمير والانفلات البشري لتوظيف التكنولوجيا في عبثية الجهل، اتكاء على الجدوى الاقتصادية والسعي الربحي الدائم معتمدين على الجشع فقط بغض النظر عن النتائج الكارثية التي نحصل عليها، فالكلمة الطيبة والروح الحقيقية يحق لهما أن تعبرا الأثير أما كلمات الموت والأحقاد والاعتماد على الأضداد فقط لن يؤدي بنتيجة فحتى تنفي الحرب لا تكن ضدها، بل اسع إلى السلام.. فالأم تيريزا دعيت يوماً إلى رالي عالمي للوقوف ضد الحروب، لكنها رفضت قائلة: ادعوني إلى رالي للسلام سأكون أول المشاركين، لذا فجلّ ما يمكن السعي إليه هو التوجه إلى تعزيز الثقافة لا محاربة الجهل، وتطوير التكنولوجيا لا تقييد العلوم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن