قضايا وآراء

الهروب إلى الأمام

| عبد المنعم علي عيسى

لا تبدو دعوة أنقرة للسفير الإسرائيلي إلى مغادرة البلاد يوم الثلاثاء الماضي على خلفية المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في غزة قبل 24 ساعة، بأنها تختلف عما وعد به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنك المتقاعدين الذي يصل تعداده إلى 11 مليون فرد، بإعطاء راتبين إضافيين عشية حملته الانتخابية لخوض الانتخابات المبكرة المزمع إجراؤها في 24 حزيران المقبل، فكلا الحادثتين لا تعدو أن تكونا فعلاً استعراضياً يستخدم لتحسين صورة فرد أو حكومة، والأمر نفسه سبق أن تكرر في العام 2010 في أعقاب القطيعة التركية الإسرائيلية على خلفية اعتداء القوات الإسرائيلية على سفينة مرمرة قبالة شواطئ غزة في سياق حملة لفك الحصار عن هذي الأخيرة، وعلى الرغم من أن القطيعة دامت لأكثر من خمس سنوات إلا أنها كانت من النوع الذي يمكن أن يستمر لوقت أطول بكثير دون أن تكون لها تداعيات تذكر على باقي القطاعات، فقطيعة «مرمرة» كانت محض إعلامية وبمعنى آخر لم تتأثر بها قطاعات الاقتصاد أو التجارة، بل إن حجم التبادل التجاري كان قد تضاعف بعدها، الأمر الذي يعني أنها لم تكن «موجعة» ومن السهل العودة إلى النقطة التي حدثت القطيعة عندها دون الحاجة إلى مفاوضات مطولة أو إلى تطبيع في العلاقات.
قد يكون الرئيس التركي اليوم غير مهدد عبر صناديق الاقتراع التي ارتأى أن الظرف جد مناسب لحدوثها مبكراً، ولا يبدو أن أياً من خصومه الأربعة يمكن أن يشكل تهديداً حقيقياً له أو لحزبه فآخر استطلاعات الرأي تشير إلى أن أردوغان سيحظى بـ44 بالمئة من الأصوات على حين سيحظى أقرب منافسيه إليه بـ20 بالمئة، ولأن الحالة هذه مرحلية أو آنية فقد ارتأى الرئيس التركي قطاف ثمارها، والشاهد هو أن الركيزة الاقتصادية التي لعبت دور الرافعة له ولحزبه باتت اليوم غيرها في الماضي، والفورة المالية التي تحققت بين 2002-2008 بفعل تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي الذي فرض قواعد اللعبة الليبرالية ما أدى إلى تتويج الأسواق التركية بتدفقات مالية واستثمارات عملاقة، لم تعد موجودة، بل الأرقام تنبئ بالأسوأ، هذا بالإضافة إلى أن تركيا كانت في حينها تسير في ركب محادثات مع الاتحاد الأوربي لنيل عضويته الكاملة، وهذي أيضاً قد انتهت قبيل سنوات، وما يلاحظ هو أن تلك الفورة سرعان ما فقدت جذوتها بعد انتهاء برنامج صندوق النقد الدولي في العام 2008 ليصبح الاقتصاد التركي بعدها «منزوع الدسم» على امتداد خمس سنوات، إلا أن تلك الحالة السابقة لم تستمر أيضاً على حالها، حيث سيؤدي انقلاب السياسة النقدية في البنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي في أيار من العام 2013 إلى نهاية شهر العسل الذي كان يعيشه الاقتصاد التركي، على حين انعكست تراجم ذلك الانقلاب في الداخل التركي ممثلة بارتفاع تكلفة الاقتراض وخروج الاضطراب الاقتصادي إلى العلن، مع وجود عامل بنيوي كان قد شكل عاملاً مساعداً آخر، إضافة إلى تلك الرافعة في صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.
من الممكن إيجاز ما سبق بأن المجتمع التركي يعتبر من المجتمعات النامية، وفيه تحظى الأحزاب المتشكلة حديثاً بقوة دفع كبرى انطلاقاً من وجود مسعى مجتمعي حثيث للتجريب، وهو ما حصل فعلاً مع حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى السلطة بعد أشهر من انشقاقه عن حرب الرفاه الإسلامي في العام 2002، والآن يمكن القول إن الحزب قد فقد تلك الميزة بعدما تمت تجربته لست عشرة سنوات متواصلة لا انقطاع فيها.
لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم محاولة انقلاب 15 تموز من العام 2016 إلا في سياق تضعضع تلك الركيزة الاقتصادية وإن كانت هناك العديد من الأسباب التي أدت إليها، وما جرى بعدها كان من الناحية العملية انقلاباً سياسياً مكتمل الشروط، فعلى الرغم من اعتقال وتسريح ما يزيد على 160 ألفاً منذ آب 2016 إلى اليوم إلا أن ذلك لم يكن كافياً كما يبدو لتحصين موقع أردوغان، فذهب إلى التضحية برئيس الحزب ووزير خارجيته السابق أحمد داوود أوغلو، تمهيداً لإطلاق وترسيخ فكرة «الزعيم المنقذ»، الأمر الذي أدى إلى تحويل حزب العدالة والتنمية إلى حزب شخصي مفصلاً على مقاسه، بل انبرى إلى تحويل بلاده برمتها على النحو السابق أيضاً، وهو ما ستكون له تداعياته السياسية، والأهم هو أن الاقتصاد التركي سوف يصاب بمرور الوقت في مقتل، وربما كانت حملة «تمام» التي أطلقها ناشطون أتراك على موقع توتير الذي هددت وزارة الاتصالات التركية بحجبه، إذا ما ذهبت الحملة بعيداً في دعوة أردوغان إلى الانسحاب من العمل السياسي، ربما كانت نذيراً استباقياً مبكراً لتلك الإرهاصات التي ستشهدها تركيا في المرحلة المقبلة، وما يقلق أردوغان أكثر هو أن جذور الحملة العميقة تمتد إلى أميركا، حيث تقول التقديرات إن التغريدات المسجلة على الموقع والقادمة من أميركا هي ستة أضعاف القادمة من تركيا نفسها.
تركيا اليوم حبلى بالكثير وليس من المعروف إذا ما كانت الولادة ستأتي طبيعية أم إنها ستحتاج إلى عملية قيصرية، على حين التحولات الحاصلة تجعل من عوامل القوة التي يستند إليها حكم أردوغان هي نفسها العوامل التي يمكن لها أن تؤدي إلى الإطاحة به، وفي حال حدوث هذا السيناريو الأخير فإنه سيكون محكوماً بأصابع الدم التي تجعل من أردوغان أقرب إلى المصير الذي لقيه رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس في العام 1960.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن