الثقافة والمثقفون بحاجة إلى دعم وتقدير لا شيء آخر .. المثقف الحقيقي عصي على التدجين والانزياح في تيارات إيديولوجية ضيقة تفتقد الحرية
| إسماعيل مروة
الثقافة تلك الكلمة التي تحمل مدلولات كثيرة، وكما رأينا في مرة سابقة، يعمل كثيرون على تحميلها السلبيات كلها من دون أن يدركوا فعاليتها ودورها! وهي التي يجعلها بعضهم محل سخرية وتندر ولا يعترف بمكانتها أو بمكانة المثقف الذي يبحث عن دور في مجتمعه يناسب الثقافة وفعلها!.
وإذا ما حدث أمر كما يحدث في بلداننا العربية اليوم، فإن الجميع يلوم المثقف ويضع اللوم عليه وعلى دوره، وينعتق بالسلبية! واذا ما كان الوقت رخاء فإن الثقافة هي الشيء الوحيد الذي يستضعف ويتم التطاول عليه!
والدول والسلطات العربية عموماً تضع الثقافة في أدنى سلم أولوياتها سواء من حيث الاهتمام أم الميزانيات أو الدور والفعالية، فأي مصنع مضروب لمواد التنظيف أهم من الثقافة الممتدة من عمق تاريخنا إلى اليوم!.
ولو استعرضنا فإننا قلّما نجد عناية تذكر تتوجه إلى الثقافة، وإلى المثقفين فكلاهما يحتاج إلى دعم وتقدير، ويحتاجان إلى أن يكون نتاجهما محل عناية كبيرة، لان المُخرج الثقافي هو الرائز الحقيقي الوحيد الذي يمكن أن تبنى عليه الأمم وحركتها.
وما بين تهميش وتهشيم للثقافة والمثقف اختلطت المفاهيم، وقزم دور المثقف، ولم يعد رائداً وإنما صار تابعاً!
فماذا عن المثقف ومؤسساتنا الثقافية؟ هذا ما سنقف عنده اليوم، وهو قضية مطروحة للنقاش.
من المثقف؟
المشكلة الحقيقية تكمن في معرفة المثقف بعيداً عن التوصيف، فيما إذا كان حقيقياً أو غير حقيقي، فالمثقف لا يمكن إلا أن يكون هو، سواء كان منضوياً تحت سلطة أو فوق سلطة، أو بعيداً عنها، والمشكلة في أنّ كل شخص مهما علت مرتبته الثقافية يطرب للقب (مثقف) ويطرب أكثر أن يحمله، لأن هذا اللقب فيه ما فيه من الضوء والنجومية، فلو كان أحدهم ذا سلطة أو ذا مال، فإنه يسعى للحصول على لقب المثقف، ويريد أن يجمع كل ما بوسعه وكأنه يستكثر على من لا يملك مالاً أو سلطة أن يتميز بمكانة اجتماعية تعطيها الثقافة! وبالإمكان أن يعدّ واحدنا عشرات الأسماء من هؤلاء في تاريخنا العربي القديم والحديث من أبي الفداء صاحب حماة، إلى كل صاحب منصب رأى في الكتابة تسلية، فكتب مالا يستحق، وروج لخواطره المتواضعة ليقال عنه..!
وكثير من أبناء الثقافة رأوا في الثقافة وسيلة للوصول إلى موقع ما، وخاصة مع قناعة مطلقة بأن المثقف من لوازم السلطة، أي سلطة، والسلطة ترغب في وجود مثقفين يدافعون عنها وعن سياستها وآليات عملها، وربما وصل الأمر إلى مسوّغ وجودها، وقد تجد هذه السلطات من المثقفين الأكفاء، وقد لا تجد، وقد لا تسعى إليهم أصلاً، فنحن أمام صراعات سلطوية متعددة الولاءات، وهذه الصراعات تبحث عن أصوات وعن أبواق، ولا تبحث عن أصحاب رأي وموقف، ما يدفع إلى اختيار الجوقات والمرددين، والاستغناء عن سوفوكليس ويوربيدس وسواهما من الأصوات الخاصة التي تنتظمها الجوقة.. وفيما بعد فإن الجوقة الرديئة أصلاً تبحث وتختبر من يصلح، والرديء لا يستسيغ سوى الرديء، بل الأكثر رداءة، وهكذا تتوالى مشكلة المثقف الذي يقدم موقفاً، لأن البيئة الحاضنة تؤدي دوراً مهماً، والبيئة الداعمة وهي السلطة صاحبة القرار في تحديد الصوت الثقافي، وصاحبة الرأي في تزيين النشاز، ومن ثم اختيار المقامات التي تلائم نشازه لتصبح شعراً وأدباً وموسيقا! ويصبح الأصيل هو النشاز، وهو المغرب، وهو البعيد عن الناس، وهو المنظّر، وهو صاحب البرج العاجي!! وتتسع المسافة فيما بين وبين ويحدث الإفقار الخطير للساحة الثقافية وبشكل ممنهج ومدروس وتتنازل الثقافة عن دورها لمصلحة تيارات أخرى أكثر شعبية وأقل تكلفة، وأكثر عائدية، وهذا ما يتوافر في المؤسسات الدينية على اختلاف الشعائر، والمطلوب هو الاعتكاف والابتعاد، ومن ثم عندما تحين الفرصة يكون الانقضاض المرّ الذي ينهي كل شيء!
فما الصفات الثقافية؟
ومن المثقف؟
المثقف هو المتنور صاحب الرأي، الذي يقدم هذا الرأي سواء اتفق مع السائد أم اختلف، وبما أنه متنور فالغالب أن يكون المثقف صاحب رأي مخالف للسلطات الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية، وهذه المخالفة التي لا تبتغي المخالفة وحدها هي التي تعطي المثقف مشروعيته، وتجعله عصياً على التدجين والانزياح في تيارات ذات منحى أيديولوجي ضيق، لأن الثقافة أوسع وأعم، لذا يفترض في أي مثقف- إن استطاع- ألا يكون متحزباً أو مؤدلجاً، لأن التحزب يجعله فاقداً حريته ورأيه، ومن ثم يفقد مشروعيته الثقافية ويتحول إلى متحدث باسم الحزب أو الأيديولوجيا.
أما كان مكسيم غوركي مؤدلجاً؟
ألم يفقد مع «الأم ثقافته» وأمومتها كرمى للمنشور الأيديولوجي؟
أما كان الشعراء العرب عبر العصور صوتاً مؤدلجاً؟
ألم يهاجم الشاعر أو الناثر شخصيات ذات مكانة ومصداقية للوقوف مع الأدلجة والحرب؟
هذا عمر أبو ريشة وسعد الله الجابري.. لكن أبا ريشة استطاع أن يرثي، وأن يعترف بالخلاف بينه وبين الجابري، فأنصف بعد أن نال!
ولا يجوز بحال من الأحوال قياس المثقف ومشروعيته ودوره من خلال السلطة ورأيها، فقد يقترب المثقف من الموقف المعلن للسلطة، بعض النظر عن الرأي الحقيقي، وعند ذاك لا يتم الحكم على المثقف بأنه سلطوي، لأن الموقف المعلن يتعلق بالمفهوم الوطني للدولة والسلطة، والاقتراب منه أو التطابق معه أمر جدّ طبيعي، بل علينا قبل التقويم والحكم أن نقرأ الموقف بحد ذاته، وذلك بمعزل عن مصدره أو تعدد المتبنين له سواء أكانوا في السلطة أم لم يكونوا… وفي بعض المواقف نجد تباعداً بين موقف المثقف والسلطة، وربما وجدنا تنافراً وتضاداً، وكذلك في هذه الحالة يجب أن نقف عند الموقف ونحلله، فيما إذا كان وطنياً ويتوافق مع منطق الدولة والإنسان، فالمثقف ليس دوماً في المكان الصحيح، وقد يكون مخطئاً أو في أحسن الأحوال قد يكون معارضاً لوجه المعارضة، بل قد يكون مرتبطاً بجهات ذات تبعية دينية أو سياسية تقف على النقيض من موقف الدولة الوطني، وليس السلطة، وهناك أمثلة كثيرة لمن يرتبط بجهة إسلامية خارجية، أو جهة مسيحية، أو جهة ممولة ذات طابع مدني ظاهرياً، أو جهة متحكمة سياسياً، وقد عرفنا نماذج كثيرة، وقد يرتبط المثقف والمبدع بجهة مانحة للجوائز وأمثالها، وقد يكون طامحاً في مكانة أو مكاسب، ومن هنا تأتي أهمية النظر إلى الموقف بذاته لا إلى التبعية وحدها، فهل يكون المثقف على حق والسلطة على خطأ إن ارتبط موقفه بأي جهة من الجهات؟ من المؤكد أن حالة الالتباس هذه تدفع الكثيرين لإدانة مثقف في موقف لا يحتاج إدانة، أو إدانة سلطة لمجرد الإدانة وهي على حق فيما ذهبت إليه، يضاف إلى ذلك الموقع الذي ينطلق منه المثقف، والمكان الذي يختاره، وبسهولة مطلقة نجد المثقف الذي يحيا بعيداً جغرافياً يملك القدرة والطاقة على التنطع أكثر مما يجب والإدانة في مواقع لا تستحق، وهذا ليس تشكيكاً برأيه فقط، بل هو في المقام الأول إشارة إلى أنه بعيد عن الجوهر والمشكلات..!
فكاتب ومثقف يحيا في باريس يمكن من الناحية العلمية أن يحدثنا، وأن ينقل إلينا الثقافة المختلفة، وأن يبحث مع جمهوره الذي ينتمي إليه، والذي خرج منه آليات تعاطي المثقفين مع الثقافة ونظرياتها، وخاصة تلك المناهج النقدية التي تأخذ لبوساً نقدياً واجتماعياً وفلسفياً، وهي تملك القدرة لتحسين الواقع الثقافي والسياسي في حياة مجتمعه.. ولكنه بانعزاله عن مجتمعه الأصل لا يحق له بحال من الأحوال أن يقوم بالتنظير والدعوة إلى العنف، فهو يتحدث باسم مجتمع يفترض أنه يحبه ويحرص عليه ولا يدعو إلى دماره، ويتحدث من كان يفترض أن يكون قد أكسبه فضائل الحوار والقدرة على الإقناع ومن ثم التغيير، ولكن وفق حوار وأسس ونظريات.. وجلّ المثقفين العرب والسوريين ضمناً عاشوا في المجتمعات الغربية، ولكنهم عندما يتحدثون للجمهور العربي يتحدثون بعشائرية وطائفية، ومناطقية ودينية، وكأن حياتهم التي قضوها في الغرب قد أخلصت لتطوير أفكارهم التي عاشوا فيها قبل مغادرتهم المحيط العربي! فهل يمكن أن يكون مثل هذا المثقف رائداً، وهل ينطبق عليه المثل العربي (إن الرائد لا يكذب أهله)؟ من المؤكد أن مثل هذا المثقف لا يعني حتى نفسه، وهو عندما ينخرط في الشأن العام فهذا واجب وضرورة، ولكن أن يقدم ما حصّله في رحلته إلى العالم المثقف والمتحضر والآخر، لا أن يكون في موقعته وجاهليته ليصنع واقعاً يشبهه هو قبل أن يكون مثقفاً عالمياً؟
فهل أتخيل مثقفاً عالمياً وسياسياً يتحدث بمذهبية سنية أو شيعية أو غيرها؟
وهل أتخيل عالماً ومثقفاً عالمياً ينير على العالم يقف خلف يهودية أو مسيحية أو إسلام؟
حتى انشتاين كان يهودياً حتى النخاع، ودافع عن اليهود وحقوقهم كما يرى، وهذا ما أشرت إليه في دراسة سابقة عن كتابه (العالم كما أراه) لكنه احتفظ بيهوديته لنفسه، ولم يقبل أن يكون سياسياً صهيونياً لأنه للعالم وليس لليهود!
المثقف الموظف والمثقف المشروع
لعلّ أخطر ما يقع تحته المثقف العربي، والسوري بشكل خاص هو الخلط بين المثقف الموظف، ذلك الذي ينتظر العطاء من جهة عامة أو خاصة، والمثقف الذي يحمل مشروعاً ثقافياً، ومن المؤكد أننا مع الموظف، لأن العمل ضرورة ملحة للحياة والأسرة سواء كان هذا المثقف وحيداً أو صاحب أسرة، فلا بد من وجود مصدر رزق له ولحياته، ولا يمكن للمثقف أن يأكل الفراغ، ولكن من يؤد الثقافة تحديداً عملاً وظيفياً بحتاً، فإنه يمكن أن يدخل ضمن تسميات عدة ليست بينها تسمية المثقف، لارتباطه بمصدر ما، وهذا المصدر سيتحكم به وبتوجهاته في حال كان مثقفاً مؤثراً.. إضافة إلى أن الثقافة تحتاج إلى الرؤية والإبداع، وهذا يقتضي التفرغ للاستثمار في الثقافة والآراء والأفكار، وجميعنا يتندر على المثقفين، وفي هذا التندر بعض حق عندما يصنفونهم بمثقفي المقاهي، وهم شريحة أكبر وأكثر خطورة من أي شريحة، وهم إما أن يجلسوا في المقاهي لإعادة خيباتهم التي يعانونها، ويقومون بالتنظير غير المجدي الذي يبقى على طاولة المقهى ينتهي بمسح الطاولة! وهناك شريحة أخرى من المثقفين الموظفين الذين اختاروا المقاهي بعد تقاعدهم، أو بعد إحالتهم على التقاعد، أو بعد إعفائهم، وخطورة هذه الطبقة من المثقفين هي في التفاف الشباب والمريدين حولهم، فهذا كان مهماً، وربما قدم خدمات للمقربين منه، وهذا له مكان عند أهله وعشيرته.. وأذكر بكثير من الألم أنني قصدت أحد مقاهي دمشق في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وكنت أرى شخصاً وقوراً أنيقاً، يجلس على الطاولة نفسها، وتأتيه قهوته بفنجان خاص، وحين ينتهي من لفافته الأولى يبدأ الأصحاب التجمع حوله، حتى يصبح هذا الركن أكبر أركان المقهى، ووحده هو الذي يتكلم وهم يستمعون إليه، وذات مرة رأيت أحد أصدقائي يجلس إلى الطاولة، وعلى غير عادته بالثرثرة يجلس مستمعاً وموقراً، وحين انتهت الجلسة دعوت صديقي للجلوس لاستلال المعلومة منه حتى لا يظهر جهلي بهذه الشخصية، فأخبرني من دون سؤال بأن هذا الرجل هو شخص مهم ولديه أفكار مهمة في القومية وتوابعها، وهو من البعثيين الأوائل، وزاد بأنه صاحب نظرية ورأي في إعادة كتابة التاريخ، وبما أنني أحاول تلمس طريق الفكر، فقد اقتربت منه في اليوم التالي، إذ لم يكن يتغيب عن المقهى، وحييته، فأهداني يومها كتيبات لطيفة بعدد من الصفحات القليلة، وأوحى إلي بأن آراءه في هذه الكتيبات.. قرأتها في سهرة واحدة، فوجدت أنها لا تختلف في شيء عن الحوارات التي كنت أسمعها، ولعلّ أهم ما أردت الوقوف فيه معه لمعرفة رأيه قضية إعادة كتابة التاريخ، وكيف يمكن أن يعيد كتابته؟! فقال لي هذا الجليل حقاً بأن إعادة كتابة التاريخ مشروع كبير وهو يعمل عليه، وحين أردت أن أقرأ بعض صفحات التاريخ معه لم أجد أجوبة، فأدركت أن المشروع هو شعار إنشائي، وأن الجليل لم يكتب فيه حرفاً، واستمرت لقاءاتنا في المقهى، إلى أن جئت يوماً فوجدت الكرسي فارغاً، وعرفت من العمال أن السيد الجليل قد رحل عن دنيانا، وحين سألت أصدقائي عن نتائج مشروع كتابة التاريخ الذي كان ينادي به، عرفت أن الأفكار رحلت معه، ولم يتم تدوين أي كلمة على الورق! قضى هذا المثقف الطليعي قرابة ثمانين عاماً ينادي بمشروع، ولا يعرف بهذا المشروع سوى أصحابه وعمال المقهى الذين أحبوا مشروعه من خلال ما ينقدهم وأصحابه قبل المغادرة!
أما النوع الأهم فهو المثقف المشروع، أو المثقف الذي يحمل مشروعاً ثقافياً، سواء كان هذا المشروع فردياً أم جمعياً، لأن أي مشروع فردي سينضم إلى مشروعات أخرى ليشكل مشروعاً متكاملاً، يمكنه أن يؤسس لثقافة متكاملة تحمل مسوغاتها، وأذهب أكثر من ذلك، فإن المشروع الفردي ثقافة هو الأكثر أهمية، لأن الفرد المثقف الذي لا يملك مشروعاً ثقافياً تنويرياً تطويرياً، يملك القدرة على إتلاف أي مشروع ثقافي مهما بلغ هذا المشروع من قيمة، ويمكنه أن يسخف أي مشروع أو أي رؤية، بل يمكن أن يحول أي مشروع مهم إلى لا شيء! لأنه بداية لا يعرف قيمة هذه الرؤى، ولأنه نهاية يرى نفسه مهدداً باكتمال أي مشروع ثقافي رؤيوي.. ومن هنا نجد شعارات تبقى مجرد شعارات:
ثقافة المجتمع.. ثقافة النور.. ثقافة التنوير.. الثقافة للجميع.. الثقافة حق الإنسان، ومن ثم نجد أن المجتمع بلا ثقافة.. لا تعنيه الثقافة ولا يعنيها..
وأنه ما من علاقة تربط بين الثقافة والتنوير والنور، وأن الإضاءة موجهة لشخصٍ أو مصلحة أو غير ذلك، بل قد نجد ما يدعو للرفض والقتل، فيتزين بشعار النور.. الثقافة ليست شعاراً مهما كان الشعار برّاقاً، بل إن الثقافة مشروع وخطة عمل منهجية، وجدول زمني، وإنجاز..
ولم تكن الثقافة في يوم من الأيام تنتمي إلى مواقع سياسية ومكاسب، وعندما تكون الثقافة موقعاً تتحول إلى سلطة. ومن المحال أن تقدم شيئاً للناس.. فهذا جان بول سارتر، وهذا جان جاك روسو، وهذا تشيخوف وتولوستوي هم من علامات الثقافة العالمية، ولم يكن أي واحد منهم جزءاً من السلطة، ومنهم من اقتربت منه المواقع فحوّلها إلى مشروعه، ولم يتحول إلى جزء من السلطة.. ولدينا شواهد أخرى اختلف فيها الرأي، فهذا مكسيم غوركي، وعلى الرغم من مكانته الكبرى في الأدب، إلا أن انخراطه في الواقع السياسي جعل أدبه منشوراً سياسياً انتهت صلاحيته بانتهاء الواقع الذي انتمى إليه، وتحولت روايته الأم إلى مرحلة، ولم تتحول إلى أيقونة أدبية.. وكذلك فإن الكاتب جنكيز أيتماتوف، وهو روائي مهم، قدّم أعمالاً لا تنسى، ولعله أهم من أجرى عملية أنسنة للحيوان في روايته، وقدّم صوراً من الطبيعة التي ينتمي إليها، إلا أن سعيه السياسي، وانخراطه في المنظومة السياسية جعله يخسر كثيراً من مكانته، وعلى الرغم من صداقاته العربية المهمة، إلا أن ارتباط اسمه بالتطبيع والصداقة مع الكيان الصهيوني وقادته من أجل مكاسب سياسية جعله في مكانة دون استحقاقه ودون مكانته.. فالثقافة شيء والعمل السياسي شيء آخر، وإن كانت نقاط الالتقاء عديدة، إلا أنها ليست مصادفة، ولا يمكن التعويل على السياسة في الثقافة، لأن السياسة تحمل مشروعاً مختلفاً عن المشروع الثقافي، بل هناك تعارض بين المشروعين، ويحتاج الأمر إلى مثقف من مرتبة مختلفة في الوعي حتى لا يجرفه المشروع السياسي السلطوي..!
المؤسسات الثقافية والمثقف
تؤدي المؤسسات الثقافية دوراً مهماً في أمور عدة:
1- احتضان الثقافة والمثقف.
2- تأمين الخدمات اللازمة للمثقف.
3- رعاية الإنتاج الثقافي.
4- ربط المثقف بالمشروع السياسي.
وهذه المؤسسات تتنوع وتتعدد، وأحصر حديثي هنا بالمؤسسات الثقافية داخل سورية، لأنني أعرف طرفاً عن أحوالها، وأجهل الكثير من خصوصياتها، لأنني لست أكثر من مراقب عن بعد، وقد تكون هذه المؤسسات مماثلة للمؤسسات الأخرى الموجودة في دول عربية أخرى، بل في دول العالم الآخر، سواء كان يشبهنا أم لم يكن.
أبدأ بالأدوار التي تؤديها المؤسسات الثقافية، فأولاً تعمل على احتضان الثقافة والمثقف، فالمثقف منتج، ويحتاج إلى مؤسسات تتبنى هذا الإنتاج، وتقدم للمثقف سبل الحياة الكريمة ليعيش من ثقافته وإبداعه، ويتم تنازع كبير في هذه المهمة، فالمؤسسة قد تعمل على التخلي عن دورها، وأذكر أن أحد وزراء الثقافة السوريين ادّعى علناً أنه ليس من مهام وزارة الثقافة خلق الإبداع والمبدعين، وفي هذه اللعبة الكلامية استطاع أن يتبرأ من مهامه ومن دوره، إذ فصل بين الإبداع والبيئة الحاضنة للإبداع، وهذا خطأ وخطل.. إذ على المؤسسة أن تحتضن المثقف والثقافة من دون أن تفرض على هذا المبدع أن يكون تابعاً، ومن دون أن يتنازل عن طروحاته في الثقافة والتوعية، ومن دون وجود المؤسسة الراعية، فإن المثقف لن يصل إلى جمهوره، وربما وصل إلى الجمهور عن طريق مؤسسات ثقافية أخرى تتعارض في توجهاتها مع الثوابت ومع المثقف لكن دينامية هذه المؤسسات تجعلها مسيطرة على المثقف والعملية الثقافية.
أما تأمين الخدمات، فهي ضرورة، وقد وجدت من أجل الخدمات مؤسسات عدة نقابية مثل هيئات الأدباء، واتحادات الأدباء، ولو نظرنا في نظم هذه المؤسسات فسنجد الطابع الخدمي هو الغاية الأولى، فهي معنية بالطبع والتقاعد والطبابة والسكن والتنقل وما شابه ذلك، وهذه المؤسسات وضعت أنظمتها الداخلية من الدول والحكومات والأنظمة، فالسلطات تعي حاجات المثقف والأديب فعملت على هذه المؤسسات الخدمية للكتاب، وقدمت لها العون، ولكن في المقابل تركت هامشاً يتم تمويله من الكتاب أنفسهم، فهم يقدمون للمؤسسة وقد تنقضي الأعمار من دون أن يكسب أحدهم ما قام ببذله ودفعه، وبجرة قلم، وقدرة قادر، ومرض مريض سلطوي، تحولت هذه المؤسسات إلى جزء من السلطة وإلى جزء منافس على التسلط.
بل استطاعت السلطات على مر السنوات، ومع غياب المثقف الذي يعي دوره وأهميته، أن تحول هذه المؤسسات إلى مؤسسات تابعة لها وتتحكم فيها، وتتحكم في السيطرة والخيارات فيها، مع أن مصدر التمويل الأساسي لهذه المؤسسات هو مصدر ذاتي ما يسمح للمؤسسة أن ترفض تدخلاً، إلا أنها انصاعت.. وبإمكاني أن أذكر هذا الأمر لأنه ما من مرة كنت صاحب مصلحة فيه، ولم أترشح في يوم، لكن كل من ترشح يعرف الخيبة، وقد حضرت مرات من هذه الانتخابات التي تختار فيها شريحة المثقفين من يتولى أمرهم، الخدمي، وأركز على الخدمية، ولكن الأمر لم يحصل يوماً كما أراد المثقفون والكتاب، وتحولت المؤسسة الخدمية إلى مؤسسة سلطوية لا يتمكن فيها المثقفون من اختيار من يناسبهم وما يناسبهم! وخطورة هذا الأمر أنه أفقد المؤسسة دورها وأهميتها وحولها إلى مؤسسة روتينية لا تؤدي غرضاً مهماً.. وتحول كل من يتولى الأمر إلى متنافسين على سلطة ومكاسب!. وبذلك فقدت المؤسسة التي من المفترض أن تقترب من الأهلية جزءاً من السلطة يخضع لمقاييسها ومعاييرها، ويتنافس عليها المتنافسون.
أما رعاية الإنتاج الثقافي فهذا الأمر يشكل طامة كبرى في حياة المثقفين، فكل مؤسسة ثقافية كما في وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب وغيرها من المؤسسات يوجد نافذة لنشر إنتاج المثقفين والمبدعين، ولكن ما يحدث ومن دون مواربة أن النشر، سواء في الكتب أم الدوريات محكوم بمن يتولى الأمر في هذه المؤسسات، ومجرد استعراض الكتب والدوريات وأسماء الذين يتم النشر لهم يظهر مقدار الفاجعة، وهذا الأمر يتعلق بالمثقف والسلطة، وبما أن القائمين حولوا المؤسسات الثقافية إلى سلطوية، فإنهم يفرضون الأسماء التي تعنيهم، ولو غاب عنها المستوى الفكري والفني! فما بالنا بشخص- وإن كان مهماً- لا يجد اسمه طريقاً للنشر في المؤسسات إلا على تباعد، وما إن يصبح مسؤولاً أو ما شابه، يبدأ الإسهال الثقافي والفكري سواء كان مستحقاً أم لا! وأنا أرى- إن كان مستحقاً- أن يتم النشر خارج مؤسسته ومن دون تحقيق مصالح لمن يقوم بالنشر له!.
وكنا نتندر بتعداد أسماء الكتاب في مرحلة، وغيابهم في مرحلة أخرى في مؤسسة ما من مؤسساتنا الثقافية! والطريف أن ما يتم نشره لا يترك أثراً، وهو مجرد ركام مطبعي! والأكثر غرابة أن بعض من يتحكم بالمؤسسة قد لا تقرأ له زوجته، وقد لا يقرأ لنفسه، ومع ذلك يعمل على إبعاد أي مؤلف من المؤلفات التي لا تنسجم معه ليتيح المجال لمن يريده أو ينتمي إليه! ناهيك عن وجود عدد هائل من الذين كانوا في مواقع سلطوية في هذه المؤسسات ومن حقهم أن يستفيدوا من الخدمات للمثقفين إن كانوا منهم! لكنهم يعودون إلى الواجهة والسلطة من باب مؤسسات ثقافية خدمية، بل يفرضون آراءهم بكل وسيلة يتمكنون منها، وربما حولوا المؤسسة الخدمية هذه إلى ميدان لهم يديرونه بالطريقة السلطوية التي جاؤوا منها!
أما ربط المثقف بالمشروع السياسي، فهذا أمر يحتاج إلى مزيد من التمعن، لأن بعضهم إن لم يعجبه الرأي ادعى بأن من يقابله خائن، وآخر يراه من السلطة، لأن المشروع الثقافي في الأساس هو مشروع وطني يعتمد على المواطن والانتماء، وليس مشروع السلطة السياسية – مهما كانت هذه السلطة- المشروع الثقافي هو مشروع نهضوي وطني، وليس مشروعاً يسارياً أو يمينياً، أو معتدلاً أو ما شابه ذلك، ومن يتابع مؤسساتنا يجد مرحلة تميل فيها الانتاجات إلى الماركسية أو اليسار عموماً على حساب الاتجاهات الأخرى، وفي مرحلة أخرى يتم تغييب اليسار بشكل شبه تام، ويبدأ كيل الاتهامات، وسبب هذا أن المشرف على المشروع الثقافي يخضع لميوله واتجاهاته، وهذا خطأ قاتل، فالمشروع الثقافي وطني يحتوي الأطياف كلها ويقدمها، ويحقق التنافسية لمصلحة الوطن ومشروعه الثقافي، وهذا لا يعني أن يتم التنافر بين المشروعين السياسي والثقافي فقد يلتقيان وقد يتطابقان وقد يتنافران، ولكن وفق المشروع الوطني لا المشروع السياسي للسلطة والأشخاص.
أعلم أن هذا الحديث لا يروق لكثيرين، وأكثرهم من أصدقائي، وما من غاية تقف وراء مثل هذا التشريح إلا غاية الارتقاء بالمشروع الثقافي، ويمكن لهؤلاء الأشخاص المحترمين أن يراجعوا منهج عملهم للعودة إلى التأثير، وليعود للثقافة دورها الريادي.. ألا تعرف مراحل كان المثقف محترماً ومعتبراً في المجتمع، ولدى السلطات! ألم يكن المثقف مهيب الجانب أكثر من اليوم! ألم يكن السياسي يتقرب إلى المثقفين؟ هل نجد اليوم حرصاً من أي سلطة عربية على المثقف ورضاه؟ ألم يصبح سائداً لدى السلطات أن لكل إنسان مثقف ثمناً؟
وهل للثقافة من ثمن يمكن أن يدفع؟
من الخاسر الأكبر من ضياع المثقف ودوره؟
من المسؤول عن تدجين المثقف وتهشيمه؟
من المسؤول عن تطفيش المثقفين وابتعادهم؟
هل المسؤول هو المثقف؟
هل السلطة هي المسؤولة؟
هل آلية التفكير والتعامل والتفكير هي المسؤولة؟