اقتصاد

«لعنة إيرانية»

| علي محمود هاشم

لكأن العالم الجديد على موعد مبكر مع اختبار قطبيته المتعددة عقب انبثاقها على خلفية الحرب على سورية..
من حيث المبدأ، ثمة تفهم ذاتي آسيوي- أوروبي لفكرة «تقليص البرنامج الصاروخي الإيراني» إلى الحدود التي تطمئن «إسرائيل»، هذا التلميح السياسي لطالما اعتلى ذروة جبل المصالح الطاقوية المتصارعة شرق المتوسط.
على المقلب الأميركي، يبرز النكوص عن الاتفاق الأممي مع إيران، كواحدة من أفقع تجليات القرن الامبريالية منذ احتلال العراق، تبعا لتيقن الجميع بأن ما ساقته للارتداد عنه لا يرقى للإقناع ما لم يتأبط المرء بلاهة مصطنعة تساعده على ابتلاع المسرحية (الكولن باولية) التي استعرضها رئيس الوزراء الصهيوني حول التسلح الإيراني.
بذلك، سيكون على القوى الناهضة، الصين وروسيا خصوصا، التعاطي مع الأمر كاختبار لمدى التقدم الذي أحرزتاه التحرر من القطبية الأميركية، ما يفترض بهما ومعهما مدفن الإمبراطوريات الأوروبي، المضي بحذر في أنشطتهم الدبلوماسية لإدخال تعديلات تشمل البرنامج الصاروخي الإيراني، إذ إنها وزيادة عما تعنيه من انصياع لمزاجية الجبروت الأميركي، فهي قد لا ترضي الأخير لأنها -ببساطة- تضع حلولا للتمويه السياسي الأميركي حيال الاتفاق، ليس إلا.
في حسابات حرب الطاقة يختلف الأمر قليلا، فالولايات المتحدة المدفوعة بسكرات إنتاج ثروتها النفطية على خلفية تعافي الأسواق، ترى في وأد الاتفاق الأممي مع إيران فرصة لدعم استثمارية استخراج ثروتها الصخرية الهائلة.. هذا الأمر يتطلب أسعارا مناسبة تتطلع أميركا لجعلها قياسية عبر معاقبة إيران كمرحلة ثانية للعقاب فريد القسوة الذي أنزلته بصادرات فنزويلا التي يشهد اقتصادها نسب تضخم عالية جداً، وسط تنويع يتخذ أحياناً طابعا طريفا للحد من الإمدادات، على شاكلة ذلك (المواطن الليبي) من الزنتان الذي ما فتئ يغلق بين الفينة والأخرى، صمامات أنابيب (الشرارة) التي تصدر 350 ألف برميل يوميا.
طالما تحققت معادلة الأسعار (المناسبة) على خلفية شح المعروض المفتعل هذا، فخلال عام أو نحوه؛ ستولد أميركا مجدداً كأكبر منتج للنفط في العالم بنحو 12 مليون برميل يوميا بعدما تجاوزت إنتاج السعودية قرب 10 ملايين قبل أشهر، وقاب قوسين من إزاحة روسيا صاحبة الـ11 مليونا، وليولد معها (أميركا المصدرة) ما إن تتجاوز عقبة مناولة الناقلات العملاقة عبر مصبات خليج المكسيك قريبا.
في الحسابات الروسية، المورد الثاني عالمياً، تشكل الأسعار فرصة ذهبية لتلطيف حرب الإيرادات التي استهدفتها خلال الأربع سنوات الأخيرة، الارتفاع المتوقع، سيعزز موقعها العالمي، ففي آسيا، سيكون الزبائن على أهبة الاستعداد لتلقي صادراتها الغازية المنافسة براً، وفي أوروبا، تبدو ألمانيا أكثر تشددا حيال استقبال النسخة الثانية من «السيل» الروسي طاوية سنوات من الابتزاز الذي دأبت أميركا على إرساله عبر صناديق دول شرق أوروبا وبريطانيا، ورغم جدية التهديدات الأميركية المعلنة في هذا الشأن، لا يفتأ يزداد الشبه بشكل لافت بين ميركل وبين اللصاقة الروسية هذه الأيام، بينما ذهبت أوروبا قبل يومين إلى (التوبة) عن (معاقبة روسيا) عبر ابتلاعها المفاجئ لكرامة محاكمها معلنة نيتها (أرشفة) حكم التعويض الذي أقرته بنحو 3 مليارات دولار لأوكرانيا -المتورطة بثورتها-، ضد «غازبروم».
أوروبا العاجزة ترزح تحت مخاوف (عقوبات المستوى الثانوي) التي تنوي أميركا فرضها على إيران، هذه الحال تجعل منها شريكا على قدم المساواة مع إيران في الثمن، فـ«توتال»، وعلى خطا الرئيس الفرنسي الذي يحاول العودة إلى أمجاد الماضي عبر الجيب الأميركي، وما إن أعلنت استعدادها للانسحاب من إيران تمسّحاً بواشنطن، حتى أعلنت ذراعها النفط الصينية «سينوبيك» نيتها سد الفراغ دعماً سياسياً وسداً أمام ابتزاز إيران.
رؤى الحسابات الصينية تنسجها بكين من اعتباراتها الخاصة كأكبر مستورد عالمي، ورغم حرصها على تبديد المخاوف الجيوسياسية في محيطها الحيوي وعلى تعزز فرص اليوان كعملة نفط، إلا أن العقوبات ضد إيران تحمل على صهوتها مخاوف الأسعار التي تتهدد نمو اقتصادها، وهي تتطلع لاستمرار تدفق إمدادات جارتها القارية بما يكفل كبح كلف استيراد النفط التي تضاعفت إلى تريليون دولار في آسيا العام الماضي تبعا للأسعار، والأسوأ من ذلك، فإن العقوبات ستعزز الموقف الأميركي في تجارتهما البينية التي بات النفط أحد مكوناتها، ليتقلص بذلك فائض ميزانه من علياء أسطوريته التي تقارب الـ400 مليار دولار.
الظروف الموضوعية الصينية هذه، ترجح ذهابها إلى دعم أكبر لموقف إيران، فكلما تعقد أمر الاتفاق النووي، ازدادت مخاطر الإمدادات جارّة خلفها مخاوف الاقتصاد.
الصين دولة صناعية عظمى، والأوروبيون يلتحقون بروسيا.. وفق ذلك، فـ(اللعنة الفارسية) التي أطلقتها أميركا من قمقمها، قد تلاحق أكثر ما تلاحق دول الخليج التي يرجح أن تمتشق مجدداً (السيف المذهبي) لتبرير مشكلاتها القادمة.
بعد مملكة السعودية التي (تشن) حملة علاقات عامة واسعة مع موسكو، باتت دول الخليج ترى فيما دأبت حتى وقت قريب على تسميته (العدو الروسي الكافر)، قبلة مناسبة، البحرين الفقيرة نفطيا، لم يهدأ بالها أيضاً إلى أن وجهت دعوة للشركات الروسية الـ(مشهودة بخبراتها) بعد أيام من إعلانها اكتشافات هائلة في مياهها الغربية.
حصل الخليجيون على الهدية الخطأ لقاء جهودهم في معاقبة إيران، مشكلتهم ستتمظهر قريبا إبان مزاحمة النفط الأميركي الرخيص، أما علاقتهم مع روسيا فستكون مشروطة بكونها مصدّراً عملاقاً، وآمالهم في تحسين الأسعار بدأت تحفر مقبرة تدريجية لقدرة نفطهم التنافسية في أسواق أوروبا وآسيا.
(اللعنة الإيرانية) التي قضت دول الخليج السنوات الأخيرة في مناجاتها.. ها قد حصلت عليها!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن