قضايا وآراء

نقود بيزنطية غير قابلة للصرف

| عبد المنعم علي عيسى

عشية انطلاق الجولة التاسعة من مسار أستانا يوم الاثنين في الثاني عشر من الشهر الجاري، «تناهبت» وسائل الإعلام الغربية تقارير عديدة تحمل بين ثناياها أمران مهمان اثنان، الأول يتحدث عن «فجوة» بين موسكو ودمشق، والثاني يتحدث عن توتر خفي في العلاقة السورية مع طهران، على خلفية التباين في المواقف تجاه التعاطي مع الضربات التي ينفذها سلاح الجو الإسرائيلي في الداخل السوري.
من المؤكد أن الحديث عن فجوة مع موسكو وتوتر مع طهران هو حديث مبالغ فيه كثيراً، دون أن يعني هذا خلو العلاقة بين هؤلاء من الاختلاف في الرؤى أو التباين في المصالح، فقمة سوتشي التي جمعت بين الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين الخميس الماضي أظهرت بوضوح تباينا في قراءة الخطوات المقبلة الواجب القيام بها في ضوء المشهد الراهن الذي ترى فيه دمشق أن الوضع في الجنوب السوري قد بات قريباً من الانفجار والظروف الراهنة مناسبة جداً لبسط سيطرة الحكومة السورية عليه، أما ما يتعلق بإمكان حدوث تدخل إسرائيلي خلال مجرى المعارك فإن دمشق ترى أنها بتحالفها مع طهران قادرة على ردع العدوان، على حين أن موسكو ترى أن الذهاب إلى الجنوب سيكون «مغامرة خطرة» قد تدفع برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى استغلالها للقيام بتصعيد عسكري يهدف من ورائه إلى ضرب كل المواقع الإيرانية على الأراضي السورية، ولذا فإنها، أي موسكو، ترى أن الوضع في الجنوب يجب أن يحل بناء على قيام ترتيبات مع واشنطن وعمان وتل أبيب في آن واحد، حيث الوصول إلى هذا الوضع السابق يتطلب انسحاب الميليشيات الإيرانية وكذا تمدد سيطرة الجيش السوري نحو الحدود مع الأردن لفتح معبر نصيب الحدودي، وعندها تصبح عمليات محاربة «جبهة النصرة» و«جيش خالد» التابع لـ«داعش» أمراً ممكنا بعد تلك التوافقات.
على الرغم من أن الظرف العسكري يبدو مريحاً، إلا أن الارتباك قد يؤدي إلى انتكاسة من شأنها أن تعيد دوران العجلة إلى الوراء، صحيح أن ما أنجزته الجولة التاسعة من أستانا كان إيجابياً وأساسياً عندما ذهبت الأطراف الضامنة إلى تأكيد تحالفها وتعزيزه في مواجهة هجمة أميركية غربية تبدو مصرة على إرجاع الزمن إلى الوراء، إلا أن الصحيح هو أن ما أنجز كان في الحدود الدنيا من المطلوب، فالغرب ما انفك يبحث ويجهد لتحقيق اختراقات هنا وأخرى هناك، وما التركيز الغربي على الملف الكيميائي السوري إلا أحد تلك الوسائل فيما أريد لعدوان الرابع عشر من نيسان أن يكون مؤشراً أو نذيراً بإمكان ذهاب الأمور باتجاهات أخرى أكثر خطورة، وهو ما استشفه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا عندما أعلن يوم الأربعاء الماضي أن أي تصعيد في إدلب أو درعا يمكن له أن يهدد المجتمع الدولي، بعد ساعات من تصريح الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرش الذي قال فيه: إن الحرب الباردة قد عادت لكنها بصورتها الجديدة تفتقد لآليات الحوار اللازمة لتلافي مخاطر التصعيد، ومن الواضح أن موسكو تتعاطى مع هكذا سياقات بجدية مطلقة بل اتخذت قراراً بمواجهة التصعيد بالتصعيد، الأمر الذي يفسر تدعيم وجودها العسكري في البحر المتوسط الذي بات يحوي 102 قطعة روسية مختلفة المهمات والقدرات بعد أن تم الإعلان مؤخراً عن إرسال العديد من السفن الحربية المزودة بالصورايخ المجنحة نوع «كاليبر» التي قيل إنها ستدخل الخدمة الدائمة، وللمصطلح اعتباراته ومعانيه في العقيدة العسكرية الروسية، فالخيارات الأخرى المتاحة أمام موسكو كلها كارثية، وهي لن تستطيع بحال من الأحوال أن تقف وتراقب محاولات إضعاف مسار أستانا، الذي غابت واشنطن عن جولته التاسعة للمرة الأولى منذ انطلاقه في شباط من العام الماضي في مؤشر إلى وجود مسعى أميركي يريد نسف المسار من جذوره، وهي تدرك أن محاولات الإضعاف أو النسف سوف تؤدي إلى بث روح النشاط على مختلف الجبهات وأكثرها ترجيحاً في ريف إدلب الغربي بهدف خلخلة الوضع في ريف حلب الشمالي المتصل بالحدود التركية، وفي درعا وريفها ما يوفر المناخات المناسبة لحدوث تصعيد إقليمي كبير ترى فيه الفصائل المسلحة أملاً وحيداً متبقياً لتحقيق «آمالها وأحلامها».
أرادت القيادتان السورية والروسية أن تكون قمة سوتشي يوم الخميس الماضي جداراً فاصلاً ما بين مرحلة عسكرية عاصفة ومرحلة سياسية توشك أن تنطلق، ومن هنا تركزت المحادثات على إعطاء دفعة قوية لمسار التسوية السياسية التي أضحت اليوم استحقاقاً لا بد من مواكبته والسير جنباً إلى جنب عربته دون تخلف، وفي هذا السياق سمعنا الرئيس بشار الأسد وهو يعلن وجوب إعطاء دفعة قوية للتسوية السياسية انطلاقاً من اللجنة الدستورية التي انبثقت من مؤتمر سوتشي المنعقد في أواخر كانون الثاني الماضي، كما سمعنا موسكو وهي تعلن عن جولة جديدة من جنيف باتت قريبة، في مؤشر على أن موسكو تريد تهدئة مخاوف الغرب والتأكيد أن التسوية السورية سوف تولد حتما من رحم جنيف لا من رحم أستانا أو سوتشي حيث الأولى تعبر عن نقطة توازنات إقليمية ودولية على حين تغيب هذي الأخيرة عن الاثنين الباقيين، وما كان لافتا هو ما أقدمت عليه موسكو مؤخرا عبر دعوتها للمرة الأولى لجميع القوى الموجودة في سورية إلى مغادرتها، وهو ما يمكن أن يفهم على أوجه عديدة، إلا أنه يحوي في الآن ذاته تحذيراً بإمكان التعاطي مع تلك القوى بأساليب أخرى مغايرة ما دام وجودها غير شرعي، وهي بذلك تقول إنها قد تصبح مضطرة للذهاب نحو ما تراه دمشق في هذا السياق، ولا نذيع سراً عندما نقول إن النظرة ما بين دمشق وموسكو كانت متباينة في النظرة إلى الوجود الأميركي في الشرق السوري وطريقة التعاطي معه، ففي الوقت الذي كانت موسكو تصر على وجوب التوصل إلى تفاهمات مع واشنطن لحل تلك الأزمة، فإن دمشق كانت تتبنى رؤية مفادها وجوب الضغط على تلك القوات وكل القوات المتحالفة معها، تلميح موسكو ذاك في إمكان التلاقي مع دمشق في نظرتها للقوى الأجنبية الموجودة على الأرض السورية سيشكل عاملاً مفيداً ومن الممكن البناء عليه في المراحل المقبلة.
وسط هذي التباينات والتقاربات تبدو النظرة الغربية للمشهد السوري شديدة السلبية وهي لا تعدو أن تكون تثبيتاً لحالة «الستاتيكو» وفي الغضون العمل على استغلال الفجوات والثغرات التي لا بد لأي مسار أن يحتويها، ومن الواضح أن ثمة قراراً غربياً يوصي بالانتظار والترقب ريثما تطفو على السطح معطيات جديدة، وفي الذروة منها إمكان انفراط التحالف الثلاثي الضامن في سورية، الأمر الذي يعني أن الغرب سيكون من الصعب عليه أن يذهب إلى توافقات كبرى مع روسيا، والراجح أن يقتصر الأمر على توافقات جزئية تفرضها الحاجة أو المصلحة، وعليه من الجائز القول إن المنطقة باتت تغلي على مرجل وقوده كاف لدوام الغليان لفترات طويلة، وهي أيضاً حبلى بالكثير وهو ما لحظه الأسبوع الماضي وزير الخارجية الفرنسي في تصريح علني له كأن باريس لا تسعى إلى انفجارها ولا جاءت بطائراتها لتقصف في عمق اللهيب السوري الذي يهدد بتوسع دائرة الحرائق إذا ما اخطأ اللاعبون الحساب، وحال الستاتيكو الذي تسعى إليه واشنطن لن يطول كثيراً، ومن الراجح أن دمشق ستكون أول من تصيبها ارتدادات التصعيد الأميركي الإيراني الأخير، انطلاقاً من أنها ترى وجوب اتساع الحرائق، فهي تدرك من تجربتها في العام 2012 أن العقوبات الأميركية على إيران لم تدفع بهذي الأخيرة إلى طاولة المفاوضات وما دفعها إليها هو القرار الأوروبي بوقف شراء النفط الإيراني، الأمر الذي قرأته طهران في حينها على أنه سيؤدي إلى حدوث انهيارات خطرة ولذا فقد أقدمت على استباقها، والمؤكد هو أن واشنطن ستمضي في ضغوطها على الأوروبيين إلى النهاية وإلى أن تضعهم أمام خيار وحيد هو إما العلاقة التجارية معها أو العلاقة التجارية مع إيران، والمؤكد أن الجواب ليس صعباً ومن السهل ملاحظة الأصابع الأميركية في القرارات الأوروبية حتى في لحظات الافتراق، كما يريد الطرفان قوله وهو ما يمكن لحظه في الموقف الذي أعلنته مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي فريدريكا موغريني عندما قالت إن هذا الأخير لا يمكنه أن يقدم لإيران ضمانات قانونية أو سياسية ولكن يمكن القول إن هناك حسن نيات تجاه طهران، وهو إعلان أشبه بمن يحمل نقوداً بيزنطية قديمة ومع ذلك فهو يسعى إلى تصريفها اليوم في البنك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن