ثقافة وفن

رمضان بين الماضي والحاضر .. عادات وتقاليد رحلت ومنها الكثير بقي في الشهر الكريم تعيد إحياءها العائلات

| سوسن صيداوي

مع إطلالة شهر رمضان، تختلف الأجواء كلية، وتنطلق المدن في زينتها بفوانيسها وقناديلها المضيئة مرحبة بالشهر الكريم، ليست هي من تهبّ وحدها لاستقبال هذا الشهر، بل أيضا يستقبله كل مؤمن في قلبه التقوى وتحدي النفس على الصبر والعطاء منتظرا من الله كل الرحمة في كل الأوقات. إذاً الناس أيضا تختلف أجواؤهم وعاداتهم في هذا الشهر، ابتداء من أوقات النوم والاستيقاظ إلى حين اللقاءات والزيارات، وليس هذا فقط بل حتى نوعية الأطعمة والحلويات والمشروبات تختلف وتنتشر في الأسواق لكونها تصنّع مخصصة للمناسبة، هذا وأيضا تختلف أمور كثيرة عن السابق منها تكريزة رمضان مروراً بالمسحراتي والحكواتي وانتهاء بالوقفة والعيد. ولكن على الرغم من اختلاف الأنماط الاجتماعية إلا أنّ هناك فئات من المجتمع ما زالت متمسكة بالأمور الجوهرية المرتبطة بهذا الشهر والتي توارثها الأجيال ويصرون على إحيائها. وللحديث أكثر سنتوقف عند بعض ما بقي من أمور متبعة بهذه المناسبة الفضيلة.

في التكريزة الرمضانية
من العادات وخاصة الدمشقية التي يقوم أهل دمشق بها قبل شهر رمضان، هي التكريزة الرمضانية. فقبل حلول شهر رمضان بيوم أو اثنين، تجوب العائلات والأصدقاء على شكل مجموعات قاصدين أماكنهم المفضلة من مطاعم ومقاه منتشرة في الأحياء الدمشقية القديمة أو في مناطق الغوطة الشرقية أو الربوة. وأيضا تأخذ التكريزة شكل (سيارين) حيث يفترشون الأرض وتقوم النساء بتجهيز الطعام، على حين يلعب الرجال بورق الشدة أو طاولة الزهر. وعن هذه العادة القديمة يرى فيها الكثيرون فسحة ووداعاً، وداعاً لما لذ وطاب، وفسحة يعيش المرء بعدها بعيداً من ملاذ الحياة الدنيا.

يا نايم وحد الدايم.. رمضان كريم..
ضجة الزينة التي تملأ شوارع المدن، وزحام الأضواء والأعلام المرحبة بحلول شهر رمضان، وعلى الرغم من الحركة السريعة للناس بين اقتناء حاجاتهم الضرورية وبين التجولات والتكريزة الرمضانية، يقبع رجل وحيد، ساكناً وهادئاً، هذا الشخص هو من بين الأكثر انتظارا لإثبات حلول شهر رمضان، فعند رؤية الهلال، في تلك الليلة هو لا ينام، وعليه أن يحضّر عدته وأدواته للخروج إلى عمله الذي يبدأ مع أول يوم من رمضان وينتهي مع نهايته. هذا الشخص اعتادت الناس صوته وقرع طبلته، إنه المسحراتي الذي كان في وقت مضى يحتاج إليه كل صائم كي يوقظه لتناول السحور. اليوم ومع تطور التكنولوجيا والعلم، أصبح بالمتناول الكثير من الأدوات التي توقظ المرء من النوم منها: المنبه، الهاتف، الجوال. وعلى الرغم من قلّة وجود المسحراتي في هذه الأيام إلا أن كل كبير في السن يحن لصوته، لأن معه ذاكرة وتاريخاً لعمر جمع أجمل العلاقات وأكثرها محبة وبساطة وألفة بين أهل الحي الواحد. وحول هذه النقطة بالذات إضافة للعديد من العادات الرمضانية تقول السيدة فاطمة وهي بعمر 83 وتسكن في بيت ابنها وسط أحفادها: «عواطفنا وشوقنا لحلول شهر رمضان تغيرت عن السابق لأن العادات والناس تغيرت، أنا ولدت وترعرت في حي الشاغور الدمشقي، بالفعل كنا نتهيأ لرمضان ونذهب نحن وأهالينا في سيرانات في بساتين الغوطة، وأتذكر أن أمي رحمها الله وجارتنا أم حسين كانتا دائما تقليان المقالي ونحن الفتيات نعد الفتوش، بينما أبي رحمه الله كان يجهز الأركيلة له ولجاره أبو حسين، الأخير الذي لا يطول الوقت إلا ويعلو صوته لأن أبي يغلبه في لعب طاولة الزهر. حياتنا كانت بسيطة وجميلة، على الإفطار دائما في المنزل لدينا ضيوف كثر، والسكبة شرط أساسي ويومي للجيران، أما عن المسحراتي فصراحة أنا لم أكن أنم إلا بعد أن يأتي، كان أبي يخبرنا بأن المسحراتي يبدأ جولته قبل موعد الإمساك بساعتين، حيث يحمل طبلته بحبل في رقبته فتتدلى إلى صدره، أو يحملها بيده، ويضرب عليها بعصا. وأتذكر حتى الآن صوته عندما كان يردد «يا نايم وحّد الدايم… يا نايم اذكر الله… يا نايم وحد الله… قوموا على سحوركم…». والمثل الذي يردده ويعرفه الكل (مثل أكلات المسحر) صحيح، لأن الأهالي كانوا يقدمون له الأطعمة فكان في أغلب الوقت يضعها في طبق واحد حيث يجمع فيه عدة أنواع من الطعام دفعة واحدة. ولكن أتذكر بعدها أن الناس باتوا يجودون عليه بالمال بدلا من الطعام. وأتذكر جيدا أنّ مهمة المسحراتي لا تنتهي في رمضان بل تمتد في أيام العيد كي يجمع العيديات».
موائد رمضانية

اعتاد الناس في شهر رمضان تناول نوعية معينة من الأطعمة والحلويات والمشروبات، وفي جولة في الأسواق التقينا العديد من الباعة، والجوالين من المشترين. وحدثتنا السيدة (غصون) أنها تركز في موائدها على المقبلات والفتّات بأنواعها منها: الحمص بالزيت أو السمنة وفتة المكدوس، وصحن الفول المدمس بالزيت مع المخلل. ولأن درجات الحرارة مرتفعة والطقس حار جدا فهي ابتعدت عن اختيار الشوربات واستبدلت بها أنواعاً من السلطات البادرة وأيضا المشروبات الباردة، مشيرة إلى نقطة مهمة وهي أنه على الصائم الابتعاد عن تناول كل ما يثير عطشه، بل عليه أن يكثر من تناول ما يطفئ العطش ويعمل على مدّه بالقوة والنشاط خلال ساعات الصيام الطويلة. من جابنه حدثنا الشاب سامر وهو صاحب محل لبيع العصائر قائلاً: «رمضان هذه السنة حار جدا، وساعات الصيام طويلة، ونحن نشهد حركة من المشترين، والكل يطلب عصائر للفواكه المتنوعة وخاصة البرتقال، وكذلك عرق السوس ومنقوع التمر الهندي». وفي سؤال عن كيفية صناعة مشروب عرق السوس قال: «إن عرق السوس كمشروب من المشروبات التي يطلبها الصائمون بشكل دائم ومتى حل شهر رمضان في السنة سواء في الصيف أو الشتاء، فالناس معتادة إياه، ولا أظنها ستغيّر من هذه العادة. بالنسبة لصناعته إنها سهلة وكانت أمي تعلمتها من جدتي، الأخيرة التي تعلمتها من والدتها وهكذا، نحن نُحضر بودرة عرق السوس، ونضعها في قماش قطني نظيف، وننقعها في وعاء كبير من الماء لمدة أربع وعشرين ساعة، ونعرف أن المشروب أصبح جاهزا من لونه الذي يصبح أسود ومذاقه حلواً».
في جانب آخر من السوق وعلى التحديد في محل للحلويات، حدثنا صاحب المحل (محمد) عن نوعية الحلويات التي يسعى الصائمون لتناولها قائلاً: «حتى الحلويات التي نركز على صناعتها في شهر رمضان تختلف عما نصنعه عادة وأكثرها طلبا الناعم والمعروك وأنواع أخرى من الخبز. وحول صناعة الناعم نحن نصنعه من عجين مائع، يجب أن يكون غير جامد أو متماسك، في البداية نخبز العجين على شكل أرغفة كبيرة على الصاج وبعد أن تجف نقوم بقليها بالزيت ونرش على وجهها الدبس، واليوم بسبب الانفتاح أصبح هناك تنوع بالدقيق الذي نعجن به الناعم فإلى جانب الدقيق الأبيض هناك الناعم الأسمر المصنوع من طحين النخالة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن