الأموي مصدر إشعاع وعلم.. زوايا وحلقات علم
| منير كيال
لم يكن الجامع الأموي عبر تاريخه الطويل مجرد دار للعبادة، فقد اضطلع بمهام أخرى علمية واجتماعية وسياسية تمحورت حول حياة الناس والدولة.
ففي هذا الجامع، كان يحضر الخليفة وعماله ورسله، ويفصل بالأمور الجليلة، فقد ذكر الخياري أن الأموي كان ملتقى أهل العلم والمعرفة، يدرسون ويدرسون وكانت حلقات التدريس هذه بحرم الجامع وصحنه وأروقته، أول النهار وآخره، وبين العشاءين.
ويحدثنا العمري بالقرن الرابع عشر، أن الأموي معمور بالناس ليل نهار، ففيه ما ليس بغيره من المساجد أو الجوامع من الأئمة والقراء ومشايخ العلم والإقراء، والحديث النبوي، فضلاً عن قراء الأسباع من القرآن الكريم، ويضاف إليهم المجاورون من ذوي الصلاح، حتى قل أن يخلو الأموي طرفة عين في ليل أو نهار، من مصلٍ أو جالس في باحته للاعتكاف أو ترتيل للقرآن الكريم، أو مؤذن أو دارس لكتاب علم، أو سائل عن معنى أو باحث في معتقد أو مقر لمذهب.
فلا يشعر المرء بأن له فماً، ما لم يرغب في تناول طعامه أو أن يتحدث مع غيره، ولا قدمين أو رجلين ما لم يشرع بالقيام من مجلسه، أو الذهاب والإياب، والأمر كذلك لباقي أنحاء الجسم لا يشعر الإنسان بوجودها ما لم يستخدمها، دونما تفكير.
ومن ثم فإن ما يلحظ بمدينة دمشق، من معالم وأماكن، فإن الإنسان لا يكاد يفكر بوجود لها ما لم يقصد ذلك، وقليلاً ما كان الإنسان إذا وقع نظره على معلم من معالم مدينة، يفكر ما لهذا المعلم من قيمة معمارية أو سمة فكرية كان لها دور أو أثر في حياته وبما هو عليه من ثقافة أو اطلاع.
وكل ذرة من تراب هذه المدينة وكل معلم من معالمها يترابط مع وجود الناس بمرفق أو جانب من حياة هذه المدينة وما تكون عليه من حر أو قر وسهل وجبل، بل كل ما يتصل بالإنسان من خلق الله، قد عمل الإنسان على تطويع ما أمكن تطويعه تلبية لمتطلبات الحياة، ومن ثم فإن كل ما بالإنسان من خلق الله، ولقد خلق الله تعالى الإنسان بأحسن تقويم.
وطالب بحل إشكال من سائل أو مسؤول، ومفت ومستفت أو مُتأنس.
ولما كان أهل الشام يتفانون في أعمال البر والخير، فقد وقفوا لهذا الجامع الكثير من الأوقاف للإنفاق على ما يتطلبه الجامع، من نفقات، فأصبح الجامع الأموي مقصداً ومحجاً من مشرق الوطن العربي ومن مقربه، وخاصة جماعات الدارسين المعنيين من طلبة العلم، الأمر الذي جعلهم يعيشون بأمان واطمئنان، فلا يشعر الواحد منهم بالاغتراب.
وساعد في ذلك انعدم الحواجز الحدودية بين الأصقاع التي يفدون منها إلى دمشق، ذلك أن أهل مدينة دمشق كانوا يوفرون للقادمين إلى الجامع الأموي لطلب العلم السكن وكل ما يتطلب ذلك من مأكل ومشرب فضلاً عن حاجات الدرس والبحث، وهذا كله فضلاً عن الإنفاق على القائمين على هذا المسجد من رعاية بشتى الميادين، فكان الجامع الأموي ملتقى علماء مدينة دمشق، والعلماء الوافدين من الأصقاع العربية الإسلامية الذين كانوا يتناظرون بشتى المعارف.
والجدير بالذكر أنهم كانوا لا يُقبلون على أي من هؤلاء الوافدين من العلماء، ما لم يتأكدوا من مقدرته، وتمكنه من علومه حق المعرفة، فكانوا يطرحون عليه الأسئلة العويصة ذلك إن لم تكن سمعة أو شهرة أي عالم وما يحمله من ألقاب تعفيه من ذلك.
ولما ضاق حرم الأموي وصحنه وأروقته عن استيعاب حلقات الدرس، فقد انتشرت هذه الحلقات في جهة غربي الجامع وشماله، فكانت المدرسة الصادرية أول مدرسة انتشرت بها هذه الحلقات غربي الجامع الأموي وشماله، ثم قامت إلى جوارها المدرسة البلخية، أما من جهة شمالي المسجد الأموي، فكانت مدرسة الكلاسة وهي لصيق الجامع الأموي من هذه الجهة، وقد بنيت زمن السلطان نور الدين الشهيد، فلما احترقت جددها صلاح الدين مع مئذنة العروس، وبهذه الجهة الشمالية أسس سنجر الهلالي المدرسة الجقمقية. ثم انتزعها الملك الناصر بن قلاوون لمصلحته، فأمر بإعادة عمارتها، فكان أمرها للأيتام، ثم صارت خانقاها للصوفية، فلما تولى سيف الدين بن جقمق نيابة دمشق المملوكية، شرع ببنائها مدرسة، وجعل مقابلها خانقاهاً للصوفية ووقف لها الأوقاف الواسعة.
أما المدرسة العادلية، فقد أنشأها بالجهة الشمالية من المسجد الأموي نور الدين زنكي، ثم تابع البناء الملك العادل، فجاءت في غاية من الحسن والزخرفة، وقد وقف لها الأوقاف الواسعة.
ثم كانت المدرسة الظاهرية الجوانية والبرانية شرقي المدرسة العادلية.
وكان من المدارس بالجهة الشمالية من الجامع الأموي المدرسة الغزالية، إلى الشمال الشرقي من مشهد سيدنا عثمان رضي الله عنه وكذلك دار الحديث الفاضلية، والمدرسة العزيزية، وكذلك المدرسة التقوية إلى الشرق من المدرسة الظاهرية.
وقد استدعى الامتداد العلمي للجامع الأموي، قيام أسواق تلبي حاجات الدارسين من المصاحف وكتب الحديث النبوي وكذلك كتب السيرة النبوية، فضلاً عما يتطلب ذلك من أقلام وحبر وورق وتجليد للكتب الأمر الذي جعلهم يطلقون على هذه المنطقة اسم سوق الكتبيين.
وهذا جعل من الجامع الأموي محج العلماء من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي إلى بلاد ما وراء النهر من كل جهة وصقع إسلامي، والجميع يتسابقون ليجد الواحد منهم مكاناً تحت قبة النسر بهذا الجامع، يفاخر به أنداده، وذلك قبل أن ينهض الأزهر بمثل المهمة التي كانت للجامع الأموي قبل ثلاثة قرون.
وبعد: هذا هو جامع دمشق الكبير، مفخرة مدينة دمشق، ورمز سؤددها، ومنطلق شعاع حضارتها، ومهوى أفئدة قاصدي مدينة دمشق من أقاصي المعمورة، باقٍ ما بقيت مدينة دمشق، ويحبها وتحبه، ويحضنها وتحضنه كما تحضن الأم فلذة كبدها، ويظلها كما يظل الأب أبناءه ويعلمهم دروس الحياة.
أليس من حق الأموي علينا أن نعيد إليه ألقه الفكري ودوره العلمي، يوم كان منارة العلم والمعرفة؟
هذا الكلام ليس صرخة في واد، ولا نزوة حالم، لكنه نداء الوفاء تجاه هذا الصرح الذي ما بخل يوماً عن تزويد الدارسين فيه من العلوم والمعارف ما طاب لهم ذلك.