قضايا وآراء

بين درهم وقاية أميركي وقنطارِ علاج روسي: أوروبا إلى أين؟

| فرنسا- فراس عزيز ديب

منذُ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلادهِ من الاتفاق النووي مع إيران، اتجهت العين نحو أوروبة، تحديداً موقف كل من فرنسا وألمانية ومدى إمكانيةِ انصياعهما للقرارِ الأميركي، يومها وفي مقالٍ بعنوان «ضرب تمهيدي أم معادلة ردع؟ استعدوا لاستقبال نازحيكم» قلنا: إن هذا الانسحاب وموقف الأوروبيين الرافض لهُ سيضع حلف «ناتو» بشكلٍ كاملٍ على المحك.
حتى الآن كانت الإدارة الأميركية تُعزي نفسها بحلمَي يقظة، الأول إمكانية عودة الأوروبيين إلى بيت الطاعة الأميركي بما يتعلَّق بالموقف من الانسحاب، والثاني إمكانية ذهاب الإيرانيين بعيداً في المواجهةِ والانسحاب من الاتفاق كردٍّ على القرار الأميركي، وإن كان الحلم الثاني بعيدَ المنال تحديداً أن الإيرانيين وإن كانوا لم يعلنوا بعد موقفهم الصريح إلا أنهم لا يبدون بواردِ منح ترامب انتصاراً مجانياً يجعلهم متساوين معه في عدم احترام التزاماتهم الدولية، إلا أن الحلم الأول لا يبدو بأنه يصطدِم فقط بانزعاجٍ أميركي من إعلان الأوروبيين عدم نيّتهم الانسحاب حمايةً لمصالحهم التجارية مع إيران، بل يتلاشى مع كلِّ لقاءٍ يتم بين طرفٍ أوروبي وروسيا، فهل إن الأميركي يسعى فعلياً للاستثمار بفوضى جديدة؟
عندما نتحدث عن مصطلحِ «الاستثمار بالفوضى» الذي يتقنهُ الأميركي فإننا ببساطة نقصد الفوضى عموماً، إن كانت فوضى عقدٍ اجتماعي في بلدٍ ما، أو فوضى علاقاتٍ دبلوماسية بين دولٍ ومنظمات، واللافت أن الأميركي حتى الآن نجح على المستويين بطريقةٍ لافتة وبمعنى آخر: لماذا نلوم الشعوب التي انقادت وراءَ كذبة الربيع الأميركي إذا كان هناك دول تقدِّم نفسها راعيةً للحريات والدساتير الحديثة تفوق تلك القطاعات المتطرفة تبعيةً للولايات المتحدة؟
هذا السؤال بإطارهِ الموسّع والبعيد كل البعد عن الرتوش لم يعد مطروحاً على المستوى الشعبي لدولةٍ كفرنسا مثلاً، بل تعداهُ ليصل لمستوياتٍ رسمية بما فيها الإليزيه الذي بحثَ فيه ساكنهُ مع مستشاريهِ قبل زيارته إلى روسيا للقاء الرئيس فلاديمير بوتين مصالحَ فرنسا، والأهم إجراء مراجعةٍ للدور الفرنسي خلالَ أكثر من عقدٍ من الزمن حكمهُ فشلٌ وأربعة رؤساء.
واضح أن المراجعة اليوم تختلف عن سابقاتها، فالرئيس الأسبق جاك شيراك مثلاً أعلنَ ذات المراجعة عندما تلا فعل الندامةِ على عدم مشاركته في غزو العراق عندما وجد نفسهُ خارج دائرةِ تقاسم المغانم، فحملَ راية «محاربة النظام السوري» بدايةً بالسعي نحو القرار 1559 الداعي لانسحاب القوات الأجنبية من لبنان وصولاً للتورطِ في اتهامِ القيادةِ السورية باغتيالِ رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.
هذه المراجعة على سوداويةِ خياراتها لكنها في السياسة استندت لقدرة فرنسا على المناورة، واليوم لا تفتقد هذه القدرة فحسب، هي لم تعد أساساً على خارطةِ اللاعبين الكبار في المنطقة والعالم، هذا التلاشي كرسهُ وجود ترامب في البيت الأبيض، فالسؤال المطروح داخلياً عن «مكانةِ فرنسا» لم يكن فقط نتاجَ الخلاف مع الأميركيين حول الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران أو نقل الأميركيين سفارتهم إلى القدس المحتلة، بل محاولات الأميركي التعاطي في السياسة مع جميع الحلفاء بذات الأسلوب الفظ الذي يقارب السوقية، كان آخرها كلام وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي انتقد السعي الأوروبي لمشروعِ «غاز خط السيل الشرقي 2» الواصل بين روسيا وأوروبا محذراً من كونهِ سيكرِّس التبعية الأوروبية لقطاع الطاقة الروسي، لكن أهم ما جاء في كلامه أن هذا المشروع سيقيِّد أوروبا في قدرتها على التصدي لروسيا، وهنا بيت القصيد، لأن هذا الكلام يتقاطع مع التحذيرات التي قالها المدير التنفيذي للشركة المسؤولة عن المشروع ماتياس وارينغ، عندما اعتبر أن أهم تحد يواجه المشروع هو تسييس الأميركيين له، أي إن التصريحات الأميركية بمثابةِ إنذارٍ لكل الحلفاء قبل الذهاب بعيداً في العلاقة مع الروس، لأن أي تقارب سيعني بالنهاية أن أميركا تعزل نفسها في الوقت الذي تسعى فيهِ لعزل روسيا، فكيف ذلك؟
لا يختلف اثنان أن مشاكل مستقبل الطاقة تشكل أحد أهم أسباب الصراعات والنزاعات، لكن بالقدر الذي تمتلك فيه الدول الاستقلالية في اتخاذ القرارات فإن الأمر ينعكس انفتاحاً اقتصادياً ينشده الجميع، وتتحول مشاكل الطاقة من نقطة خلاف إلى نقطةِ تلاقٍ، ربما هذا الأمر تخشاهُ الولايات المتحدة، فهي ما كادت تستيقظ من صدمة نزع فتيل الأزمة بين الكوريتين في بحر الصين، حتى استفاقت على شرطٍ أساس أراده الكوريون الديمقراطيون لإتمام القمة بين الزعيم الكوري كم جونغ أون والرئيس الأميركي دونالد ترامب: لا شروط مسبقة، والملف النووي مقابل الوجود الأميركي.
خسر الأميركيون جولة وربحت منطقة بحر الصين عودة التلاقي والحوار بين دولها، ذات الأمر يجري مع الأميركيين في الشق الأوروبي، إذ إن حلفاءه تجاوزوه حتى بمسألة الالتزام بالعقوبات على إيران فما بالنا بالعلاقة المتطورة مع الروس، على هذا الأساس يبدو الأميركي المترنح يضرب يميناً وشمالاً عساهُ يوقف الزحف الأوروبي إلى الحضن الروسي فماذا ينتظرنا؟
علمنا التاريخ أن الولايات المتحدة أشعلت الحرب اليوغسلافية مطلعَ التسعينيات من القرن الماضي لأنها ببساطةٍ أرادت وأد مشروعِ الاتحاد الأوروبي في مهده، تحديداً أن يوغسلافيا يومها كانت قلب أوروبة والأميركيون يعيشون نشوة تهلهلِ الاتحاد السوفييتي واحتضاره، نجحت في ذلك وفرضت نفسها منذُ ذلك الوقت شرطيَّ العالم الذي يتحكم كما يريد بمصير البشرِ والحجر، وإذا كان انهيار الاتحاد السوفييتي وضرب المشروع الأوروبي نتاجَ فرطِ قوةٍ أميركي فكيف نوصِّف اليوم الوضع الأميركي مع عودة الاتحاد السوفييتي بصورةِ روسيا القوية واقتناع الأوروبيين أن اتحادهم الاقتصادي لن يُكتب له العمر أكثر من ذلك في ظل العلاقة التصادمية مع روسيا؟
ربما أن الأميركي وحدهُ من يجيبنا عن هذه التساؤلات عندما يقدم لنا وجباتٍ متتالية من التخبط الاستراتيجي الذي وصلَ لحدّ دعم تنظيم داعش الإرهابي في البادية السورية لمنع تقدم الجيش العربي السوري، هذه التحولات سيكون لها اردتداداتٍ مرتبطة بالسلوك الأميركي القادر أن يسلكَ كل السبل لمنع خروجه المذل والإمعان بعزلتهِ، هي لم تبدأ مع إعلان الهولنديين المفاجئ امتلاكهم معلوماتٍ عن التورط الروسي بإسقاط الطائرة الماليزية فوق أوكرانيا، لكنها حكماً لن تنتهي إلا بعودة التفجيرات الإرهابية إلى قلب العواصم الأوروبية، وقد تأخذ شكلاً جديداً يستهدف مسؤولين بعينهم، هو أسلوب يتقنه الأميركي في جعل النزاعات والدماء سبباً لاستمرارِ سطوته، وبمعنى آخر إن أوروبا العجوز أمام اختبار أن تختار وصفةً روسية مجربة تعيد إليها الروح والشباب أو إنها ستؤكد المؤكد أنها لم تعد عجوزاً، بل ماتت، والميت لن ينفع معه دراهم الوقاية، كل الترجيحات تشير إلى أن قنطار العلاج الروسي أهون من دراهم الوقاية الأميركي، فما بالنا إن كان قنطار العلاج هذا بديلاً لقراءةِ اسم أوروبا في صفحة الموتى؟ لننتظر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن