من دفتر الوطن

الـ102

| زياد حيدر 

منذ الرصاصة الأولى انشغلنا بأنفسنا، بحثنا عن سبل الفرار والصمود أمام المجهول الذي كنا ننزلق نحوه.
جميعنا تقريباً، انزوينا في غرفنا ذلك الربيع، وفكرنا وتناقشنا مع الأهل والأصدقاء، وقلبنا الأفكار والسيناريوهات، وبحثنا في آفاق الوطن والمهجر، وقارنا أنفسنا بجيراننا ممن عصفت بهم ذات الرياح.
تشبثنا بخيمنا، ودارينا أعمالنا، ونزلنا منذ الأيام الأولى للبقاليات نجمع حوائجنا، ونخزن الخبز والمعلبات، ومواد الإسعاف الأولية. حصنا منازلنا بالسبل الممكنة، بعضنا وضع أبوابا حديدية، ومن هم أقدر نصبوا كاميرات المراقبة والإنارة التلقائية، واشتروا كلاب حراسة، وهيؤوا الرشاشات الأتوماتيكية على أسطح منازلهم.
وضعنا أنفسنا دوما في دائرة الخطر، أو هكذا تخيلنا ذلك الوقت، وبتنا نعد خطواتنا للبيت، وننام في حمامات المنزل تفاديا لخطر الرصاص الطائش، وغير الطائش.
كل صباح ننظر تحت سياراتنا بحثا عن قنبلة موقوتة، ومن كانوا أوسع حيلة، تمكنوا من مسدسات حصروها بين بناطيلهم وخصورهم، وأغلبهم لا يجيد استخدامها.
تجولنا مع الخوف، أو اعتمدناه رفيقا ثقيل الظل، حسبنا حساباتنا اليومية والشهرية والسنوية، تحسبا لأزمة، تحولت حرباً وقد تطول. وفكرنا في الخطوة التالية، في المستقبل، في الخلاص، في مستقبل الأولاد وفي خلاصهم، وتساءلنا إلى أين؟
بعضنا من المحظوظين، أو القادرين، شقوا طرقهم نحو الغربة، وآخرون أسسوا أعمدة جديدة لبيوتهم في أبعد نقطة يمكن أن تصلها رصاصة. بقي منا من بقي في دائرة الخطر المحتمل، وغادر من غادر.
كنا جميعاً نمتلك الخيارات، أو جلنا على أقل تقدير، كنا أحراراً في اختيار مصائرنا وطرقنا ودفع كلفتها المحسوبة، والمغامرة ربما، لكننا كنا أحرارا بين قوسين، كلنا في بحثنا اليومي عن نوافذ الفرار أو الخلاص أو الأمل، كنا ننسى أو نتناسى أن ثمة آلافا من الشبان، لم يمتلكوا خيارا.
كانت وظيفتهم وواجبهم حماية قدرتنا على الاختيار، سواء كنا في طريقنا نحو الخلاص خارج البلاد أو من محافظة لأخرى. سواء كنا نعمل أو نخطط لعمل، أو حتى عائدين من عرس، نستمع إلى أخبار الجبهات المتعددة في البلاد، في السنوات الأولى، وننكس رؤوسنا لبعض أخبارها الدامية.
كانوا جنوداً نظاميين، يمارسون تدريباتهم التقليدية، منذ شهر أيار العام 2010. كانوا يمتلكون مشاريع تشبه مشاريعنا وربما تسبقها، لعام ما بعد نهاية الخدمة، كانوا يتهيئون ليكونوا عرسانا وأطباء وأساتذة وحرفيين.
لكن الحرب جاءت، وفرضت توقيتها على حيواتهم، وعمدتهم بأكثر نيرانها شدة، وفرضت عليهم طرقها، ومفارقها.
تحولوا مع الوقت لفرسان، أصبحت الحرب منزلهم، محيطهم، والساحة التي نصبوا بها خيامهم. كنا نراهم، في سيارات النقل العسكرية، يتنقلون بين نقطة وأخرى. ننظر إليهم، فنخشى أن يفتضح عجزنا، وينظروا إلينا، ويقولوا لو ترون ما نراه كل يوم..
ثماني سنوات، لم تهدأ بنادقهم، ولا فرغت مخازنها، ولا استراحوا، ولا قضوا إجازة طويلة، ولا عاشوا. بعضهم فقد أخا في طريقه للدفاع عن باقي أهله، وبعضهم فقد صديقا في طريقه للدفاع عن جيرته، وبعضهم من فقد أكثر بكثير.
جميعهم، ممن بقي، فقدوا ثماني سنوات، من أهم سنوات عمرهم، ومستقبلهم. بعضهم خرج مجروحا، وبعضهم من خرج جريحا. ثماني سنوات، ونحن نقوم بحساباتنا وتقييماتنا ونسوق توقعاتنا، تحت ظل بنادقهم، حتى اعتدناهم مع ظلال الأشجار ودورة الأرض. فرسان الـ102، أي كلام يكافئ تضحياتكم؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن