قضايا وآراء

انسحاب ترامب من الاتفاق الإيراني صَدّع المؤسسة الغربية الأطلسية

| قحطان السيوفي

لم يَكف الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن ارتكاب الحماقات منذ دخوله البيت الأبيض، وخاصة في مجال السياسة الخارجية، غير أن قراره الانسحاب من اتفاق البرنامج النووي الإيراني، ربما يكون من أكثرها تهوراً وخطورة وازدراء للنظام الدولي.
الاتفاق الإيراني النووي الموقع في 2015، وشاركت فيه فرنسا وألمانيا وبريطانيا والصين وروسيا والولايات المتحدة، كان تتويجا لـسنوات من الدبلوماسية المتأنية، وحلفاء أميركا الأوروبيون يَعضون شفاههم، ويتصنعون ابتساماتهم، بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي.
المعادلة تغيرت، «شعار أميركا أولا» جعل ترامب ينسحب من اتفاقية باريس للمناخ، ويبادر إلى التخلي عن فكرة حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتمزيق الاتفاقيات التجارية، والتشكيك في حلف الناتو، وجاء الانسحاب من الاتفاق الإيراني، العلامة الأكبر على صدع في العلاقات عبر الأطلسي منذ نهاية الحرب الباردة، ومعظم الأوروبيين يقولون إذا أرادت الولايات المتحدة التصرف كدولة مارقة، لا تهتم بآراء حلفائها، فسلام على تماسك الشراكة الأطلسية التي تفترض وجود مصالح مشتركة.
إذا أصر ترامب على معاقبة الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران، فلابد لأوروبا أن تتخذ موقف المقاومة وتحمي نفسها من التهديد بالعقوبات الأميركية، وتفرض عقوبات مقابلة على الشركات الأميركية على أساس «واحدة بواحدة» وربما يشعر الأوروبيون بحقيقة أن قرار ترامب يجعلهم في المعسكر نفسه مع الصين وروسيا.
كرّست قمة قادة الاتحاد الأوروبي في صوفيا الخلاف مع الولايات المتحدة، ولاسيّما في ملف الاتفاق النووي الإيراني، إذ ندد رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك بـ«تقلّب» مواقف إدارة ترامب، معتبراً أن قراراتها «خلّصت أوروبا من كل أوهامها» في شأن الاعتماد على أميركا، بالمقابل أقرّ رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بمحدودية قدرات القارة في مواجهة العقوبات الأميركية على الشركات الأوروبية.
محادثات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في بروكسيل الأسبوع الماضي مع وزيرة خارجية الاتحاد ووزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا اعتبرها ظريف «بداية جيدة ووجّهت رسالة سياسية مهمة»، وأضاف: «لا نتخيّل أن تقطع أوروبا علاقاتها بأميركا، لكننا نريد من الأوروبيين أن يدافعوا عن مصالحهم»، وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغيريني أقرّت بأن الاتحاد لا يستطيع تقديم ضمانات قانونية واقتصادية لإيران.
قرار الانسحاب، قد يؤدي على المدى الطويل إلى انفصام عرا التحالف بين أوروبا والولايات المتحدة، وهو التحالف الذي شكّل الركيزة الأساسية للمعسكر الغربي في الحرب الباردة، لأن ترامب لم يتشاور مع أي من الدول الأطراف قبل أن يقرر الانسحاب من هذا الاتفاق، لم يكن أمام الدول الأوروبية إزاء هذا الصلف سوى الاختيار بين أحد بديلين، الأول: الانصياع لإرادة ترامب بإعلان الانسحاب الذي من شأنه إظهار الاتحاد الأوروبي كأنه قوة لا تملك من أمرها شيئاً وليس أمامها سوى الدوران في الفلك الأميركي.
الثاني: تحدي هذه الإرادة، بتأكيد استمرار التزامها بالاتفاق النووي مع إيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى صدام مباشر بينهما، خصوصاً إذا مضى ترامب قدماً في فرض العقوبات على الشركات الأوروبية التي لا تلتزم بها، وبدا، حتى الآن، أن الدول الأوروبية استقر قرارها على ترجيح البديل الثاني.
اعتبارات ثلاثة رجّحت قرار التحدي لإرادة ترامب: أولها أخلاقي قانوني، وثانيها سياسي أمني، وثالثها اقتصادي تجاري، وعلى صعيدي الأخلاق والقانون، لم يكن أمام الدول الأوروبية ما يبرر الانسحاب من اتفاق دولي شاركت في إبرامه بمحض إرادتها، ولم يصدر عن الوكالة الدولية للطاقة النووي، أي تقرير أو تصريح يشير من قريب أو بعيد إلى إقدام إيران على مخالفة أي من بنوده، ولأن الدول الأوروبية تدعي أنها تراعي الاعتبارات القانونية والأخلاقية في قضايا السياسة الخارجية، بعكس الولايات المتحدة التي لا تتردد في الإطاحة بالاعتبارات القانونية والأخلاقية إذا تعارضت مع مصالحها الخاصة.
على الصعيد السياسي والأمني، يبدو واضحاً أن الدول الأوروبية باتت أكثر اقتناعاً بأن انهيار الاتفاق مع إيران سيؤدي حتماً إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً مع تزامن ذلك مع نقل سفارة أميركا إلى القدس، وخطر وقوع حرب جديدة في المنطقة.
على الصعيدين الاقتصادي والتجاري، بدا واضحاً أن قرار الانسحاب الأميركي سيمكن الولايات المتحدة من فرض نفسها كشرطي وحيد للاقتصاد العالمي، الأمر الذي قد تراه أوروبا متضاربا مع مصالحها الاقتصادية، ويشير ذلك إلى أن حماقات ترامب تعدت الخطوط الحمر المقبولة حتى من أقرب حلفائه.
الملاحظ تصدع المؤسسة السياسية الغربية في عهد ترامب، وتضارب المصالح بين أوروبا وأميركا، فوزير الخارجية الألماني السابق سيجمار جابرييل طالب بوضع خطوط حمراء للعلاقة الأوروبية الأميركية في عهد ترامب، كما طالب بوضع سياسة خارجية أوروبية تعتمد على النفس، بدورها الصحافة الأوروبية أصبحت تطلق على البيت البيض لقب بيت المجانين الأبيض، فما قدرة الاتحاد الأوروبي كتجمع إقليمي يبحث لنفسه عن دور في النظام الدولي، وماذا يملك هذا التجمع من أدوات وآليات تمكنه من لعب الدور الذي يطمح إليه بشكل مستقل عن أميركا؟ هذا هو السؤال الذي سيتعين على الاتحاد الأوروبي الإجابة عنه لحماية الاتفاق النووي مع إيران والحيلولة دون انهياره، وعلى الأوروبيين أن يقفزوا على أساليبهم السياسية التقليدية ليثبتوا أن أوروبا العجوز ليست عاجزة.
أخيراً؛ لا بد من أن تكون هناك مواقف تجعل ترامب وزملاءه الجمهوريين الحمقى في واشنطن يفكرون جديا في الأمر، كيف استطاعت الولايات المتحدة أن تعزل نفسها إلى هذا الحد الخطير وسط الحلفاء على الجانب الآخر للأطلسي، ومهما تكن نتائج المواجهة الترامبية مع الدول الرئيسية لأوروبا العجوز، فإن ثمة صدعا حصل في المؤسسة الغربية الأطلسية، وأعتقد أن السيل قد بلغ الزبى كما كتب فيليب ستيفنز في «الفاينانشال تايمز» في 17 أيار الجاري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن