تسوية قابلة للحياة
| عبد المنعم علي عيسى
تلوح في الأفق الكثير من النذر التي تشي باقتراب موعد معركة الجنوب السوري، والراجح هو أن تلك المعركة قد استكملت شروطها مؤخراً، أو أنها الآن في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة عليها، واستكمال الشروط هنا يعني التحضيرات العسكرية وفي الآن ذاته الحسابات الإقليمية والدولية، على الرغم مما ذهبت إليه المتحدثة باسم الخارجية الأميركية هيذر ناورت يوم الجمعة الماضي عندما حذرت دمشق من أن واشنطن سوف تستخدم إجراءات حازمة ومناسبة رداً على انتهاكات وقف إطلاق النار، ومن الواضح أن ناورت قد عنت بذلك منطقة الجنوب السوري ذات الخصوصية الاستثنائية التي يفرضها اليوم موقعه الجيوبوليتكي المعقد والذي يشبه إلى حد بعيد حقل ألغام موصولاً على التسلسل، حتى إذا ما انفجر اللغم الأول فيه لحقته باقي الألغام بالانفجار.
الأمر المستجد في هذا السياق، وهو الذي أدى إلى اتخاذ القرار وربما إلى تحديد ساعة الصفر أيضاً، هو التحول الذي شهده الموقف الروسي، إذ إن من المعروف أن موسكو كانت حتى وقت قريب ترى أن ذهاب الجيش السوري إلى الجنوب هو «مغامرة خطرة»، ولذا فإن ما تؤكده التشطيبات النهائية الجارية التي تحدث عنها المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقرير له يوم الجمعة الماضية، ثم إن الطائرات السورية كانت قد ألقت بدءاً من الأسبوع الماضي مناشير فوق مناطق في الجنوب تسيطر عليها فصائل معارضة وهي تدعوهم إلى إلقاء السلاح، ما تؤكده تلك التشطيبات هو أن موسكو باتت موافقة على إطلاق معركة الجنوب لإعادة هذا الأخير إلى حضن الأم السورية، فيما تشير تقارير أخرى أن الترتيبات قد شملت أيضاً الفصائل الموالية لطهران في الداخل السوري بعد موافقتها على عدم تقدمها نحو الحدود السورية مع فلسطين المحتلة لمسافة لا تقل عن 40 كم، لكن وعلى الرغم من ذلك تبقى هناك مسألة حساسة تتمثل بالموقف الأميركي الغامض، فواشنطن مصرة على أن الجنوب لا يزال محكوماً إلى اليوم باتفاق «هامبورغ» الذي جرى بين الرئيسين الأميركي والروسي في السابع من تموز من العام الماضي، وعلى الرغم من أن تلك الصيغة باتت منتهية الصلاحية بفعل ما قامت وتقوم به تل أبيب إلا أن واشنطن أرادت التذكير بأن هذا الاتفاق الأخير يجب أن يظل ساري المفعول إلى حين التوصل إلى اتفاق آخر، ولذا فإن الحدث يحتمل أحد أمرين: الأول هو حلول الوكيل الإسرائيلي مكان الأميركي ما يعني أن التنسيق معه يكفي لعدم اعتراض واشنطن على الأقل وما نسمعه لا يتعدى وفق هذا المنظور الاعتراض الإعلامي، والثاني هو أن تكون موسكو ودمشق قد قررتا إطلاق المعركة دون الرجوع إلى واشنطن، وهذا الاحتمال هو الراجح هنا.
على الرغم من أن هكذا سيناريو سيكون مكلفاً جداً، إلا أن الأمر كما يبدو قد بات خياراً حتمياً برغم أكلافه الباهظة فهذي الأخيرة هي أيضاً حتمية وإلا كيف يمكن هزيمة المخططات والمشاريع الخارجية تلك التي تتلون بحسب الطلب وبحسب الحاجة والمعطيات والمراحل؟
في الشمال ذكرت تقارير نقلاً عن مؤتمر صحفي لوزارة الدفاع الروسية يوم الخميس الماضي أن القوات المسلحة الروسية والإيرانية والتركية قد أكملت الإحاطة وانتشار مراكز المراقبة حول إدلب عبر إنشاء 29 مركز مراقبة منها عشرة روسية واثنا عشر تركياً وسبعه إيرانية، ومن الناحية العملية فإن هذا الأمر يعني قرب معركة إدلب أو بدء التحضير لها لكن ليس قبل أن تتم عملية إعادة الجنوب إلى كنف الحكومة والدولة السوريتين، وفي مقلب آخر يختص بالحراك السياسي الساعي إلى إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية كان أبرز ما طفا على السطح في الأسبوع الماضي هو تصعيد موسكو لمطالبها بخروج كل القوات الأجنبية الموجودة على الأراضي السورية، بعد أن كان الرئيس الروسي قد افتتح هذا السبق في أعقاب قمة سوتشي التي عقدها مع الرئيس بشار الأسد في السادس عشر من الشهر الجاري، وربما كان هذا الأمر الأخير قد قرأ لدى «بعض» الإيرانيين على أنه يعني أن دمشق وموسكو قد توصلتا إلى توافق روسي سوري وهو يقضي بـ«إخراج» إيران من سورية بتوافق مع الغرب وواشنطن، ويضيف هؤلاء أن الدليل الأكبر على حدوث تلك التوافقات مع الغرب إنما يتمثل بقرار العودة إلى مفاوضات جنيف التي أعلن عن جولة جديدة منها سوف تعقد في القريب العاجل، هذا التشنج الإيراني إنما يعكس حالة عصيبة أضحت فيها الذات شديدة الحساسية تجاه أي فعل أو تصريح مهما يكن حجمه أو دوافعه، فالعلاقة السورية الإيرانية هي علاقة إستراتيجية وعلى كل الصعد والمجالات ومن القصور حصرها بالتواجد العسكري، والمطالبة بالخروج التي أعلن الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني عن رفضه القاطع لها يوم الأحد الماضي، يجب أن تقرأ في سياق واحد يختصره سؤال واحد أيضاً وهو يقول: إذا ما كان التواجد الإيراني في سورية يعود إلى سنوات عديدة سابقة فلماذا علا صراخ تل أبيب عليه مؤخراً فقط؟ وفي الإجابة على هذا التساؤل فإن المعطيات تقول إن تل أبيب لم يعلو صراخها في السابق للمطالبة بالخروج الإيراني لأنها كانت ترى أن «وكلاءها» في الداخل السوري سوف يقومون بتلك المهمة، وعندما فقدت أملها في هؤلاء الذين باتوا خارج دائرة الفعل بات من الواجب عليها أن ترمي بثقلها كله مرتفقاً بالصراخ الذي نسمعه في رتم متصاعد يومياً.
في نصف اللوحة الآخر هناك إصرار لدى أغلبية القوى والدول الفاعلة في الأزمة السورية على إعطاء دفعة قوية للتسوية السياسية السورية وهو ما خلصت آلية قمة سوتشي أولاً بين الرئيسين الأسد وبوتين، ثم تلاها توافق روسي فرنسي عبر القمة التي استضاف فيها الأخير نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في الأسبوع الماضي، حيث سينص البيان الصادر عن هذه القمة على حدوث اتفاق على إطلاق آليات مشتركة خلال الأسابيع المقبلة لإيجاد نقاط مشتركة لدفع تسوية سياسية شاملة في سورية تكون قابلة للحياة، وفي السياق ذاته ذكرت تقارير أن الحكومة السورية كانت قد سلمت كلاً من موسكو وطهران، بعد أن كانت قد سلمت للأمم المتحدة في الأسبوع الماضي، أسماء مبعوثيها إلى اللجنة الدستورية التي أقرها مؤتمر سوتشي أواخر كانون الثاني الماضي.