ثقافة وفن

المثقف وهيمنة المؤسستين الاجتماعية والدينية … التحالف بين السلطتين السياسية والدينية أنهى حرية الثقافة والحراك الاجتماعي

| إسماعيل مروة

في أغلب الأحيان يتعرض المثقف العربي إلى ضغوط لا قبل له بها، وخاصة من النخب السياسية أو الجهات التي تسعى للسيطرة على الرأي والضغوط هذه لا تقف عند حد محدد، وغايتها الأساسية إلغاء دور المثقف وشخصيته، ونفي صفة الريادة عنه، فالمثقف رائد، والرائد لا يكذب أهله، كذلك قالت العرب ولكن ما بالنا عندما يفقد هذا الرائد دوره ومكانته؟ وبما أن المثقف الحقيقي من الصعب تدجينه، فإنه يتم اللجوء إلى تعويم مجموعة من المنتمين إلى الوسط الثقافي، ووضعهم في السنام الثقافي العالي جداً مكانة ومنافع ليطغى المشهد المزيف، وتضيع المصداقية القائمة بين المثقف ومجتمعه، وهذا ما حصل عبر عقود عربية طويلة، وكان يتم تارة بالادعاء، وأخرى بالتصفية، وثالثة بالإبداع، وربما كان من يواجه المثقف يعي أنه يفقر المجتمع ويجعله خالياً من شعلته التي تبث فيه الحياة بين فترة وأخرى.
فهذا عبد الرحمن الكواكبي يقتل بسعي من الخليفة العثماني، وهذا محمد عبده يوصف بالتبعية والماسونية، وهذا أحمد شوقي وما جلبه من المسرح يوصف بأوصاف لا تمت إليه، وهذا توفيق الحكيم تلبسه مواصفات منها البخل إلى أن كتب (عودة الوعي) فضاع الحكيم وضاع تاريخه.. وهذا مصطفى العقاد وأسلمناه للقتل على رصيف ما.. وهذا وهذا.

المثقف والبراغماتية

إن أراد أحدهم وصف مثقف حقيقي بأوصاف فإنه يصفه بأوصاف متناقضة وللمثقف ذاته، فساعة هو جاف، وأخرى عنيد، وأخرى لا أحد يقدر عليه، وتارة متخلف، وإن أرادوا التهذيب قالوا: يعيش في النظريات وبين الكتب! وقد تكون هذه الأوصاف صحيحة إلى حد ما ولكن من قال لهم: إن المثقف لا يتمتع بالبراغماتية؟ من قال لهم: إن المثقف لا حياة له ولا حاجات، وأنه بالإمكان المزاوجة بين قضايا عديدة في حياته؟
هناك أمثلة كثيرة في مجتمعنا تظهر أن المثقف الحقيقي يمكن أن نوجد له منطقة يمارس فيها ليونته والبراغماتية ليحقق للمجتمع ما يريده، وللسلطة ما تريدها، ولمنطلقاته الثقافية ما يشاء، وضمن الأطر الممكنة من دون أن يسلب المجتمع من المثقف خصوصيته، ومن دون أن يتجاوز المثقف مجتمعه الذي أعطاه وأراده مغيراً ومنطقياً.
وأذكر في هذا المقال أنني في زيارات عديدة إلى القاهرة التقيت بالمبدعين المثقفين الذين لا يشك بمكانتهم، ومنهم الصديق الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي حافظ على ثوابته الفكرية من دون أن يكون منتمياً إلى جهة سياسية سوى الوطن، وقدم رؤاه في أعماله الروائية والقصصية والدرامية، وهو القادم من عالم الكتابة القصصية، وقد شهد له الدكتور سيد حامد النساج بأنه واحد من أهم كتاب القصة القصيرة في الستينيات، وأسامة أنور عكاشة كان يطمح إلى مصر، وينتقد بلين حيناً، وبقسوة أحياناً، ولكنني أزعم أنه ما من رأي كان له وعومل بواقعية واحترام كما يستحق، وبقيت أعماله للاستهلاك الثقافي، وأذكر الحملة التي قامت ضده في مصر والبلدان العربية لأنه تحدث عن شخصيات في تاريخنا العربي والإسلامي، وانتقد وشرّح اعتماداً على التاريخ، فلم يبق مثقف عربي، وخاصة من الذين تم تعويمهم، إلا وتناول أسامة وحاول تهشيمه، واتهم بعدم الانتماء، وبالتطاول على الشخصيات ذات القيمة التاريخية، وكل ما فعله أسامة أنور عكاشة هو أنه نزع صفة القداسة عن الأشخاص، وقرأ الأحداث من دون أن يضيف شيئاً..! وبعد رحيله بدأنا نجد الذين كانوا يتهمونه يرسلون رسائل عبر وسائل التواصل يستشهدون بأقواله، ليدللوا على صحة ما ذهبوا إليه هم، ولكن أسامة رحل ولم تتم الاستفادة من آرائه! أما أقسى ما تمت مواجهة المثقف به فهو ما حدث مع الأستاذ الدكتور جابر عصفور وهو الباحث المهم بلا ريب، وصاحب كتب الثقافة والتنوير، والطالب الامتداد لطه حسين، والذي يملك رؤى لا ينكرها إلا جاهل، وقد جلست إليه مرات في القاهرة، وكان يجمع إليه نخبة المثقفين، وكل ما قاله وعبر عنه عن الثقافة ومستقبلها وواقعها كان يذهب أدراج الرياح، فالسلطة السياسية اكتفت به كاتباً، وبقيت متمسكة برأيها بشخص قد يكون مهماً في مجاله، لكنه أفسد الكثير من الواقع الثقافي، ومن سوء حظ الدكتور جابر عصفور كان إيمانه بدور المثقف، وهنا أرجو ألا يعول كثيراً على دور المثقف في مجتمع يبتعد عنه كثيراً.. وفي اللحظة الأخيرة، وفي الوقت بدل الضائع أرادت السلطات أن تستعين بلاعب من الدرجة الأولى، فاختارت الدكتور جابر عصفور وزيراً للثقافة، والمشكلة أنه قبل، ولم تسعفه ثقافته في قراءة الواقع والمستقبل، لكنه استقال في اليوم الثاني، وبهذه الحركة الخبيثة من السلطة، وغير المدروسة من د. عصفور حدث أمران خطيران، أولهما أثبتت السلطات أن المثقف أخذ فرصته ولم يستطع فعل شيء، وجعلت الدكتور عصفور شئنا أم أبينا خارج إطار المعادلة المؤثرة حين وسمته بالسلطة ليوم واحد! فهل كان الأمر مدروساً لتغييب هذا الصوت التنويري، والانتقال إلى مرحلة من الثقافة الإخوانية أولاً، ومن ثم الثقافة غير المؤثرة؟ ربما.. والدليل على ذلك أن مرحلة ما بعد الأخونة استعانت بالأستاذ الدكتور شاكر عبد الحميد لهذا الموقع، والصديق الدكتور عبد الحميد من أهم النقاد الجماليين العرب، وله ترجمات لم يسبق إليها، وله رأي في الصورة والجمال واللوحة والثقافة، وهو من أنظف الناس فكراً وحياة، لكن الدكتور عبد الحميد جاء وحاول وخرج من دون أن يتمكن من وضع بصمته، لتبدأ مرحلة جديدة من التنازل عن دور المثقف لمصلحة الثقافة الشعبوية والسلطوية، ليعود تعويم مثقفين لا مكانة لهم في المجتمع أو الثقافة!

المثقف والمجتمع
يطالب المثقف في أحايين كثيرة بما لا يقدر عليه، أو بما ليس من اختصاص، والمجتمع العربي يلعب على تناقض كبير في هذا الميدان، ففي الوقت الذي يهمش المثقف وربما يسخر منه، يطالبه عندما يتعرض المجتمع لمشكلة في أن يتصرف، وإن عجز عن التصرف فإنه يحمله تبعات هذا الإخفاق! والأدب عموماً والدراما المصورة تحديداً استطاعت ما بين نقل واقع، وتصوير رؤى أن تسهم إسهاماً كبيراً في ضرب الطبقة المثقفة، فهي في نظر الدراما ثقافة مقاهٍ، وفي أحسن الأحوال فإن المثقف شخص منعزل عن الواقع وغير قادر على التأقلم، فهو مساحة ممتدة من السخرية والتندر، سواء من حيث شكله أو من حيث حديثه الذي يظهر انفصاله عن الواقع، وقد قدم نجيب محفوظ صورة المثقف في (ثرثرة فوق النيل) وغيرها وكان مثار سخرية، وإن كان في نهاياته يقدم رؤية المثقف الذي كان مثار سخرية.. ولعل الرواية والأدب القصصي من أهم روافد الصورة الحقيقية للمثقف ووقوعه تحت التأثيرات المجتمعية، لكن في ظل الضعف القرائي فإن هذه الصورة لا تصل، وإن تم تشخيصها فإن الصورة الحقيقية تضيع لمصلحة الترويج للأفكار فالمثقف ابن بيئته وليس منعزلاً، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يخرج عن إطار بيئته إلا إذا ضحى بكل شيء لمصلحة الثقافة، وغالباً ما يخسر هذا الصنف كل شيء، ولكن في الوقت نفسه لا يكسب الثقافة ولا يغير شيئاً في المجتمع الذي يخضع لشروط كونته عبر زمن متطاول.
فكم من مثقف نعت بالكفر والزندقة لا لشيء إلا لأنه يرفض السحر والشعوذة، وربما وجدنا في مرحلة لاحقة هذا المثقف نفسه من مقتنعي الشعوذة التي تسهم إسهاماً كبيراً في تصنيف المجتمع، وتحويله إلى مجتمع منقاد بشكل كبير..!
وكم من مثقف تعارض رأيه مع رأي مجتمع، وتعامل المجتمع مع المثقف بقسوة مطلقة، لأنه تعود على هذه الثقافة الجمعية المجتمعية، وصارت من ثوابته التي تحمل الكثير من القداسة المطلقة، وربما تحولت إلى قداسة تتفوق على ما ينظر إليه على أنه مقدس على وجه الحقيقة لدى المجتمع القادر على تحويل غير المقدس إلى مقدس، وتحويل الفكر المقدس إلى فكر مدنس.. وتستمر اللعبة في تحويل المجتمع إلى الغيبية المطلقة، وإلى أن يصبح أسير عادات وتقاليد لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون رافعاً للمجتمع القادم.
فيخضع المثقف إلى ثقافة مجتمعه في الزواج والإنجاب والتربية، وفي عدد الأولاد وتوجهاتهم وأسمائهم وتربيتهم، وهنا مكمن من مكامن الخطورة لأن هذا الأمر يؤسس لامتداد التأثير المجتمعي إلى عقود وقرون قادمة، والطريف المؤلم أن المثقف هو الذي يخضع وينصاع للمجتمع، وإن كان هذا المجتمع جاهلاً، وعلى الرغم من انصياعه فإن أي رأي ولو كان معتدلاً له لن يؤخذ بعين الاعتبار، لأنه ببساطة جزء من هذا المجتمع المكرس تاريخياً وسياسياً، ولا يرغب أن يكون خارج السياق المجتمعي والتاريخي والسياسي. وهؤلاء المثقفون في المجتمع تتم الاستفادة منهم، ويتم حلب إمكاناتهم حتى النهاية ومن دون أن يعطيهم مجتمعهم شيئاً، وحتى الاحترام يكون محدوداً ومقتصراً على بعض القضايا، ولابد من الإشارة إلى أن هؤلاء المثقفين يعانون من مشكلة في ذواتهم، فهم لا يقومون بفضح سلبيات مجتمعاتهم، وعندما يرحلون يرحلون وهم يحملون الغصة المجتمعية، ومن المثقفين النادرين في هذا المجال الطبيب الدكتور وجيه البارودي الذي حظيت بأكثر من لقاء معه، وقرأت شعره الذي قدّمه لي بتواضع الكبار، وحين عقدت ندوة عن وجيه البارودي، وقفت عند البارودي والمجتمع، وأنا أرى أن موقفه من المجتمع هو الذي يبقى منه، وهو الأكثر أهمية، فالغزل يتعدد، ويمكن أن يقدمه أي شاعر، أما جرأته فقد كانت فريدة في نقد مجتمعنا السوري ومجتمع حماة الذي ينتمي إليه بصورة خاصة، وقد كان واضحاً وواخزاً في نقده لحماة، ولا أقول بالقسوة، لأن الحكم يجب أن يضع الجانبين في الاعتبار وهو يقوم بالنقد.. فالبارودي كان طبيباً عاماً يؤدي لمدينته حماة خدمات الطب بكل الاختصاصات من الطهور إلى الولادة، ويقدّم ذلك تطوعاً، ومن دون مقابل في أحايين كثيرة، ولكن عندما تقدم للانتخابات في أربعينيات القرن العشرين خسر ونجح المتحولون والمتدينون والمشعوذون وهذا ما جعله ينظم قصيدتين مؤثرتين في هجو مدينته.. وعلينا ألا نقرأ العناوين فقط، ولو وقفنا عند المعاني التي أرادها البارودي وذكرها نجده يتحدث عن المال والدين والشعوذة والعلم، وكل هذه القضايا المجتمعية هي التي لا تزال مستمرة في حياتنا المجتمعية إلى اليوم، وأزيد بأن هذه الظواهر تكرست أكثر، بل تحولت إلى ثقافة مهيمنة، والسؤال: لو أن الناس تنبهوا منذ ذلك الوقت فهل وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ أضرب هذا المثال لأن أحد الباحثين المفترض أنه متنور وعلماني كما يدعي، ويتحدث عن الرموز وسواها في كتاباته ومحاضراته اعترض بشدة على هذه القصائد في الندوة ورأى قصائد البارودي منتهى الهجاء والقسوة!! وأزعم أنه لم يقرأ هذه القصائد نهائياً من قبل!
إن مجتمعنا بحاجة ماسة إلى خضّ بل إلى عملية انقلابية في منظومات أسهمت إسهاماً كبيراً في تراجعه وتراجع دور المثقف.. وهذه العملية هي مهمة الطبقة السياسية الحاكمة، وليست من مهام المثقف، لأن المثقف المفرد لا يمكن أن يواجه الثقافة الجمعية، وإن فعل كما فعل البارودي فإنه سيتعرض للكثير من المضايقة ولولا أن البارودي طبيب ويمكن أن يعيش من عمله لانتهى إلى نتائج كارثية، لكن مهنته جعلت المجتمع بحاجته.. والبارودي لم يكن مريضاً، لذلك انتقد وتحدث، ولكنه في الوقت نفسه بقي محتفظاً برأيه، وبقي يمارس مهنته ويقدم خدماته للمجتمع من دون أن يمنعه تنكرٌ كان من المجتمع وقيمه.
المطلوب من المؤسسة السياسية أن تجري هذا العصف المجتمعي وهذا التغيير، ولو قامت بذلك فإننا سنجد تكاثر المثقفين الذين يقفون خلف مشروعها حتى نهايته، ولكن الانقياد الذي تريده النخبة السياسية هو الذي جعلها تعزز التخلف، وتتجاهل البارودي، وتغمض العين عن نهاية الكواكبي، بل هي من عمل على نهايته، وجعلها تسهم إسهاماً كبيراً في الترويج لأراجيف وأكاذيب تسهم في تهشيم المثقف المتنور، والتنور شرط.

المثقف والمؤسسة الدينية
إن العلاقة الوطيدة التي تربط المثقف بالمؤسسة الدينية هي علاقة شائكة وقاسية ومختلفة، وتتنوع هذه العلاقة بين الرضا والسخط، بين هذا وذاك، وقد كانت هذه العلاقة شائكة منذ القدم، والعلاقة تبدأ منذ بداية الهيمنة الدينية، وكل ما نقرؤه عن أبي حيان التوحيدي وابن برد وابن المقفع وصولاً إلى شعراء التصوف يقع تحت هذه العلاقة الإشكالية للغاية، التي تجمع بين الرؤية السياسية والرؤية الدينية، ويؤكد ذلك التحالف الذي قام بين السلطتين السياسية والدينية منذ بداية الإسلام وانتقال العاصمة خارج حدود المدينة المنورة، واستمر الأمر مع نمو الإسلام السياسي، وهذه الأسماء التي ذكرت تؤكد ضرورة الفصل بين المثقف والمؤسسة الدينية التي تحمل سوط السلطة السياسية لمعاقبة أي مثقف حُر بتهم تروق للمجتمع والناس، ويمكن أن تكون مسوغة، بل من الممكن أن تلاحق المثقف الحر اللعنات، وهو ليس إلا صاحب رأي سياسي يعارض السلطة السياسية، لكن المؤسسة الدينية حولته إلى شيطان رجيم، وهنا نقف عند نوعين من المثقفين:
أ- المثقفون الذين لا ينتمون إلى المؤسسة الدينية، وهؤلاء الحرب ضدهم تجد مسوغاتها السياسية والاجتماعية، ويمكن أن يصبح هؤلاء من المنبوذين، بل إنه يحظر عليهم أن يتحدثوا في أي أمر ديني، وأذكر أنه في مرات عديدة تناولت قضايا ذات مساس بالمؤسسة الدينية، فكان الاعتراض المدروس منهم: ما شأنك؟ اسأل قبل أن تكتب!
إذا لم يكن من شأن الإنسان أن يتناول القضايا، فلم تتدخلون به وتحشرون أنفسكم وفتاويكم وأحاديثكم وطلعاتكم البهية في وجهه؟! وإذا كان مضطراً للسؤال فلم يكتب أصلاً؟ هو يكتب لأنه غير مقتنع، يكتب لأن له رأياً، يكتب لأنه يريد أن يغير..
وكثير من هؤلاء المثقفين يؤثرون الصمت والعزلة والابتعاد، فلا يقدمون على أي رأي، ويمارسون حياتهم الثقافية من دون أن يصطدموا ودون أن يتركوا أثراً.
ب- المثقفون الذين ينتمون إلى المؤسسة الدينية، وهؤلاء نوعان: إما أن يكون المثقف المتدين مثقفاً حقيقياً وعالماً، وهم قلة، وهؤلاء غالباً ما يلجؤون إلى الكتب والتحقيق والدراسات، وسواء اتفقت معهم أم لم تتفق فإنك تحترم هذا العمق والبحث عن العلم والدقة والتحري، وهؤلاء في أغلبهم بعيدون عن الساحة الثقافية الدينية، ولا تجد لهم ظهوراً يذكر عبر وسائل الإعلام والتواصل، لأن العلم أورثهم زهداً إيجابياً، وخطر هؤلاء كما فائدتهم محدود في شريحة من طلبة العلم.. ومن دون أي مواربة فإننا لن نجد بين هؤلاء من يتصدى للمنابر ويتنطع بالمعرفة.
وإما أن يكون المثقف الديني في الواجهة السياسية والإعلامية، وهنا مكمن الخطورة، وخاصة إذا صدق أحدهم نفسه، وظن أنه عالم وعارف، ولأنه قادر يمكن أن يتفضل علينا بكلام لا فائدة منه ويدعي أنه سيد العلماء، وأن ما يقوله هو كشف! والمؤسسة الدينية التي تدير قناة نور الشام، تركت هذا العام كل علماء سورية واكتفت بشخصية نقف باحترام لها، ولكن طفت على السطح من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وتتم استضافتها في المساجد لخفة دمها ورشاقتها ومزاحها، هذه الشخصية تملك مواصفات جميلة ومقربة من النفس، لكنها لا تملك أي مقوم من مقومات الحديث للناس عبر الإعلام، وليس في قناة واحدة بل في قناتين لأسمع حديثاً دينياً بلغة المنامات وبالعامية، ومن دون روابط ودون شواهد، ودون غاية يرجوها الإنسان المتابع.. هل أصبحت سورية خالية من العلماء الذين يتحدثون بوزن وقرب من الناس، فيقنعون ويؤثرون؟ إذا كانت كل المعاهد الإسلامية التي ترعاها وزارة الأوقاف غير قادرة بمدرسيها وإدارييها وخريجيها على أن تقدم علماً، فالأمر يحتاج إلى مراجعة، وإن كانت المؤسسة الدينية هي التي تكتفي بهذه الأمثلة فالمشكلة في المؤسسة الدينية نفسها!
ينتابني إحساس مزعج وأنا أتابع هذه البرامج، وفي أوقات الذروة، وتعاد نفسها في أكثر من قناة، وأسأل: هل هذه السوية هي التي تعرض من خلالها الإسلام الشامي أو السوري؟ هل الخفة في العلم والمعالجة هي المطلوب؟!
إن ما وصل إليه حال المؤسسة الدينية يدعو للاستغراب، فمرة نسمع بلاغة ومعالجة وحكمة ومنطقاً وانتماء كما يبدو مع ظهور سماحة المفتي العام للجمهورية، ومرة أخرى نعود إلى المنامات، أما من منطقة علمية حقيقية تتابع الحكمة والمنطق؟
في سنوات سابقة كنا نجد التناوب في العلماء، وهم ليسوا بشخصية واحدة، قد يكون أحدهم مقبولاً أكثر من غيره، لكنهم جميعاً من أصحاب الإسهامات العلمية، ولن أعدد الأسماء سواء كان في المشايخ الكبار أو الشباب لئلا أقع في اتهام التصنيف، لكن الحصرية، وربما دفع إليها مفهوم الرعاية الإعلانية، قدمت لوناً واحداً، وليس لوناً علمياً بأي حال من الأحوال، وإن كان يعيدنا، فإنه يعيدنا القهقرى الفكرية والثقافية والدينية، ويعمم نوعاً من الثقافة التي تدفع إلى مزيد من الغيبية والتشدد!
وبعد ذلك يأتي من يسأل عن المثقف!
المثقف إن أُبعد عن المنبر كيف يصل صوته؟!
والعالم المتنور إن أُبعد لمصلحة كلام لا طائل تحته من يمكن أن نحاسب؟!
إن ما حدث في سورية خلال سنوات يدفعنا دفعاً لإعادة النظر والمراجعة، وأن تعتمد مقاييس ثقافية حقيقية بعيدة عن الهيمنة الاجتماعية والدينية لننطلق بسورية العظيمة، والأهم ألا ننظر إلى مؤسساتنا نظرة الملكية الخاصة التي نملك الحرية في تحديد إعلامها ومن يظهر عليها.
الثقافة في ورطة.. وتحتاج إلى عملية انقلابية، والتنوير لا يخيف بقدر الجهل!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن