ذهنية الذكورة
| د. نبيل طعمة
أمام الأنوثة التي تدعونا للاتجاه مباشرة ومن دون مواربة، للاعتراف أننا انتهكنا منظومة الأنوثة بشكل فاضح ومستمر منذ عشرات القرون، ما أدى إلى حدوث خلل عالمي هائل، وأن نسعى الآن لإعادة الأنوثة إلى عالمنا، يعني أننا نمنحه الحكمة العميقة والقوى الإنسانية الهائلة التي ترينا بدقة أن ركائز العالم الحي ومكانته قادمة من الأنثى صاحبة المنشأ الدقيق لكل القوى الحية المسكونة في الأعماق البشرية، والتي من دونها ما كان ليتطور ويصل إلى ما وصل إليه، وبشكل خاص نأخذ أمثلة من تكوينها الرحمة والشفقة والحب والغيرة والإنسانية والسلام والعطف والخوف، وحينما نتخلى عنها يعني أننا نتخلى عن قيم مسكونة فينا، بفضل وجودها، وهي التي لا تجد سعادتها على ما يبدو إلا بالتبعية له، على الرغم من مناداتها بالاستقلال المادي والاجتماعي والعدالة والمساواة مع الذكورة، وعلى ما يبدو أن هناءها الوجداني لا يكون إلا بطاعتها لذكر تعجب به، يحقق لها الأمان النفسي، وأجزم أن محاربتها المستمرة ومطالبتها بالمساواة تتأتى من ظلمه لها، لذلك نجدها تسعى بشكل دائم للحب الذي يجسد لها أعظم عمل تقوم به في مساحة حياتها.
مصيرنا الذكوري يلزمنا بأن نوجه انتباهنا إلى داخلنا، لأن كل شيء يحدث ما هو إلا في داخل الأنثى التي نحمل منها في أعماقنا جزءاً مهماً.
هلا تفكرنا في دورتها الشهرية وجماعها وحملها وولادتها وإرضاعها لنا؟ هل نقدر على استمرارنا في ممارسة العادة السرية التي تبدأ مبكراً بعد اكتشافنا لذكورتنا من دون تخيلها، وحالنا لحظة أن نمرَّ من مراهقتنا؟ حيث تغزونا بقوة، وتدعونا لامتلاكها من أجل الاستقرار والعبث في آن، هل بمقدورنا أن ننكر تأثر فكرنا وجميع أعضائنا بها؟ أوَلم نكن من دونها ذهبنا إلى الشذوذ والمثلية التي تظهر عودتها الآن بقوة نتاج استغلالنا الهائل لها؟ هل للإنسان بجزأيه القدرة على منع التخيل ذكراً كان أم أنثى، الذكورة تعاني الألم الأبدي المتجلي في الأنثى، على العكس تماماً منها حيث تجد فيه مع الصعوبات والهموم أمومتها، لأنها تنتظر من إنجابها حلمها الكبير في تحقيق انتصار لها هذا أولاً، وثانياً الانتقام من أحلامها وأولئك الذين حاولوا إذلالها ثانياً، ناهيك عن رؤيتها للحبيب المثالي الذي تكون على استعداد للاستشهاد الوجداني من أجله، ولماذا تبحث الذكورة في ذهنيتها على أن تكون محبوبة، وتفضل ذلك على أن تأخذ دور المحب، على الرغم من بذلها للغالي والنفيس من أجل إرضاء ذاتها، حتى وإن وصل الأمر للتجرد عن الشخصية التي ربما توصلها إلى الحضيض أو السحق، وإلى ما أريد أن أصل إليه.
إن قوانين الذكورة تكره الأنثى بأن تصل إلى مرتبة الإعجاب، ولفت النظر إليها، كي تحقق حالة استغلالها وإرواء الشبق الفطري الذي بنيت عليه، فالذكورة تعلم الأنثى منذ اللحظة الأولى لحضورها كيفية وصولها إلى الجاذبية وآليات الإغراء لها، أي لم تعلمها سوى المظاهر بدلاً من تعلمها المساواة والاستقلالية، التي من دونها تبقى غانية بعقد نكاح أو من دونه، فكلاهما بنكاح العقد يصفق له الحضور، وإلا يدينها إلى غانية وزانية وداعرة.
ليس كل ذكر رجلاً، إنما كل رجل ذكر، هذا فارق مهم حينما ندخل إلى الفصل بين المعنيين، فصفات الرجولة فارس وبطل وشجاع، والنبل والفداء والإيمان بالشراكة مع الأنثى، يعني فهم الحياة وأسباب وجود جنسنا فيها، وحينما نخصص البحث في هذا الموضوع نحمل غاية واحدة هو الارتقاء بمفهوم الذكورة.
الجنس بين الذكر والأنثى حالة وجدانية راقية مكتملة سريعة كانت أم ضعيفة، أو قيّمة أو حتى سطحية الأداء، أو أنها ضرب من ضروب تفريغ الطاقة المتجمعة التي تحتاج أي مكان، لأنها عابرة تبقى جميعها حاجات ماسة تحيا في ذهنية الجنسين، إلا أن الخوف الذي يلازم هذه الذهنية يتجلى في فقد أحد الجنسين للإحساس، ما يظهر حالة من الإذلال الذاتي وكسر هالة الحب الراقي وتحويله إلى دون بلا معنى، بلا ألق، بلا ذاكرة، وعندما تتحد الأنوثة مع الذكورة وتذوبان ببعضهما، ففيها يظهر العالم بحالة رائعة.
إذاً ذهنية الذكورة حميمة وقوية وعاطفية، حتى أعتى الرجال وأقساهم في لحظة وجود أنثى نراهم يتحننون ويخضعون للأنثى، إلا أن الرجل يهاب أن يترك ذاته على عفويتها أمام الأنثى، فإذا حدث أنهته وتجاوزته وحولته إلى تابع ومريد، تتلاعب بأفكاره متى تشأ، فهل تقدر الذكورة على الاقتناع بضرورة تغيير سلوكياتهم التي أصبحت تستوجب القلق من استفاقة الأنوثة التي أخذت على عاتقها نبش ماضي الذكورة، الذي كان ينسى بسهولة أمام ماضيها الذي تستخدمه الذاكرة دائماً، وصحيح أنه بعدما وصل إلى كل المراتب قدم لها جوائز ترضية، إلا أنه بقي يديرها ويستغلها كيفما اتجهت، مذ تلك اللحظة التي اغتصب فيها ذاك البستاني الإلهة إنانا، وتدحرج الصراع الذكوري الهائل على السلطة بكل أبعادها، والتي من خلالها تمَّ إقصاء الأنثى دينياً وسياسياً، ليتجلى دورها في سجنها المنزلي، ومن ثم يعود ليفسح لها المجال في العمل، وفي بعض مواقع الإدارة التي لا شأن لها بالقيادة النوعية، فهل سمعتم عن أنثى تقود جيشاً في معركة حقيقية؟ إنما وفي الوقت ذاته تقود الذكورة بكيدها لا بدهائها، كما فعلت عشتار الإلهة الأم لسورية الكبرى، عندما بحثت عن إنجاب البشرية، فطاردت الذكورة الهائلة المحمولة في أنكيدو (الطوطم) الذي رفض فقتلته، ليعود صديقه كلكامش ويبحث عن سر الخلود الذي وجده في وحدة الذكر والأنثى، منجبي الأثر ومن دونهما لا أثر.
إنَّ ما يهمنا من ذهنية الذكورة، هو التمييز بين الجوهر والمظهر، بين الحقيقة والوهم، وتلمس تلك النغمات الدينية التي أوجدها العقل الذكوري، وحولها إلى جسد بهيمي، واستغلاله إلى أقصى مدى، فإن لم يستجب وجب ضربه وهجره، متناسياً أنه منجبه، إنه بذلك يعزز فكر الذكورة المحبّ للحكمة والمعرفة الباحثة عن الحقيقة صاحب الرؤية الجديدة، هذه الذهنية الأنانية التي لا تحب إلا الأشياء الجديدة الجميلة، بدلاً من أن تحب الجمال ذاته، الذي يفيض على المشهد والصورة والحياة مبتعداً عن السرير الذي صنعه الله الداعي لقدسيته عبر رابطة الزواج وسرير الإنسان المصنوع من اللذات والخيانات والانتهاكات والاغتصاب لكامل خلقية الأنثى، فالذكورة لا يعنيها سوى هذا السرير المتنوع المتلون المتسخ بعيداً عن ذاك السرير الإلهي الذي تدعي الذكورة احترامه، وتخالفه على الرغم من اعترافها بأن قوة العقل الذكوري أقوى من أي سياسة ومال وجنس، وهذا يمنحنا فرصة التعرف على الذكر الذي يتلاشى ويفني المرأة، فهي الحامل الرئيس، وكأن بها البحر يحمل السفن أو يبتلعها.
طبعاً لم تصل شراسة الذكورة التي تستفزها وتحرض عليها شراسة الأنوثة، التي تختلف عن شراسة الأم التي تدافع عن أبنائها لحظة وقوع الخطر، لماذا؟ لأن الذكورة عقلية، والأنوثة عاطفية، والرابطة السرية أقوى بكثير بين الأم ووليدها، إلا أن حكمة الذكورة وقدرتها على قيادة الحياة، تمنحها قيمة مضافة للحضور والهيمنة الواقعية، وهنا لا أنفي أنَّ كثيراً من معاني الذكورة مفقودة في ذهنيتها بكمّ التخلف والفقر والجهل أو الإدمان على شيء ما.
إلى ذهنية الذكورة أتجه، كي تأخذ مكانها المنطقي في التساوي مع الحياة.