ثقافة وفن

ممتاز البحرة صانع ذاكرة بصرية ثرية لجيل كامل … ما يميزه هو ذلك الثراء في الشخصيات التي أبدعها في تقديم أنماط الرسوم في فن القصة الطفلية

| سارة سلامة

إن ما يميز الفنان ممتاز البحرة، إضافة إلى رسومه المتقنة، وألوانه الجميلة، هو ذلك الكمّ الكبير والثريّ من الشخصيات التي أبدعها، والتنويع في تقديم أنماط الرسوم في فن القصة الطفلية، فمن بيئة التراث القديم إلى البيئة المحلية المعاصرة، ومن الرسوم الخيالية إلى الكاريكاتير والرسم الساخر، وضمن سلسلة إعلام ومبدعون صدر عن وزارة الثقافة، الهيئة العامة للكتاب، كتيب بعنوان «ممتاز البحرة»، للكاتب رامز حاج حسين، وذلك للتعريف به وتخليداً لذكراه العالقة في أذهان كل سوري وعربي.
وذكر الكاتب في المقدمة: «أن هذه رحلة عبر بحر اللون، وأحاسيس الريشة الغنية المرهفة فوق ناصع بياض الأوراق، رحلة لتقديم تحية، ولو بسيطة، إلى روح فنان خالد في وجدان السوريين، فهو من صنع ذاكرة بصرية ثرية لجيل كامل، فكلنا يعرف باسماً ورباباً، وكلنا يعرف شخصية أسامة، وكلنا يعرف ممتاز البحرة الذي أبدع في مجال رسوم القصة المصورة في فترة السبعينيات والثمانينيات، حتى نهاية الألفية المنصرمة، وقدم لمكتبتنا السورية والعربية العديد من الشخصيات والرسوم التوضيحية المزينة لمجلات تلك الحقبة، ولما كان يرسم لنا قصصنا الطفليّة، كان من حيث لا يدري يبث من روحه فيها، ليرسم أنفسنا أيضاً».
نشأته

ولد محمد ممتاز البحرة في التاسع من أيار عام 1938 في حلب، وهو ينتمي إلى أسرة دمشقية عريقة، أسرة البحرة، التي انتقلت إلى حلب بسبب عمل الوالد الرياضي الفاضل محمود البحرة الذي كان يعمل حينها مفتشاً لمادة التربية الرياضية في مدينة حلب.
ونشأ البحرة في كنف والديه محباً للعلم والدراسة، مقتدياً بوالده المربي الفاضل الذي زرع فيه منذ نعومة أظفاره حب العلم والتعليم والرقي في العطاء، في مرحلة ذهبية كان دور المعلم فيها يحتل الريادة والتقدير من المجتمع السوري كله.
وعادت الأسرة لتستقر في دمشق، وقد عاش ممتاز طفولته وشبابه في بيئة دمشقية محافظة.
كان أكبر إخوته، لذلك تقلد منذ الصغر شؤونهم ومساعدة والديه في الاهتمام بأمور البيت، شأنه شأن كل الأبناء البكور في الأسر السورية، الذين غالباً ما تلقى على عواتقهم مثل هذه المسؤوليات، ليشبوا عن الطوق رجالاً صغاراً يحملون إلى جانب فطرتهم الطفولية النقية مسؤولية تكبر سنيهم بأعوام.
فكان أن نشأ مع البحرة حبه للاستقلالية، والعمل على رسم ملامح هواياته وطموحاته بالجد والمثابرة والدأب.
رحلة الدراسة

بدأ ممتاز دراسة الفنون الجميلة في مصر بمدينة القاهرة، إبان الوحدة بين سورية ومصر، وكان له من الرفقاء من هم أصحاب أثر فنّي بارز في الحياة التشكيلية السورية، ونذكر من زملاء دراسته في مصر نذير نبعة، وغازي الخالدي رحمهم اللـه جميعاً، وبدأت رحلة ملؤها الفن واللون والعطاء.
وتلقى في تلك السنوات أصول فن اللوحة والتشريح، وكان طالباً نجيباً ما يدل على نبوغ فنه الذي نما فيما بعد، حيث تلاحظ القدرة المذهلة للفنان ممتاز البحرة في رسم الجسد البشري في كل وضعياته، وبكل تفاصيله التشريحية، وقد حدثتنا الفنانة لجينة الأصيل في إحدى زياراتها إلى مجلة أسامة، ما يشبه الاعتراف من كل أقران الفنان ممتاز البحرة بتفوقه الفني في هذا المجال: «كنا كلنا نتحايل على رسم الأيدي وزوايا الجسد لكي نهرب من رسم التشريح للكف والأصابع.. إلا ممتاز، فقد كان يطلب الزاوية الصعبة لينفذها، ومن ثم يبهرنا بالنتيجة بتلك القدرة التشريحية الهائلة التي يملكها».

فنان الطفولة الأول
يعد ممتاز البحرة من أهم رسامي أدب الأطفال في سورية والوطن العربي في عصره، وكان قد جرى التخطيط والإعداد، بمكونات وخبرات سورية، للنهوض بالكتاب المدرسي للفئات الأولى في وزارة التربية، وكان صديقه ورفيق دربه في الإبداع، الشاعر سليمان العيسى، أفضل شريك له في هذا العمل.
بدأ ممتاز البحرة يعبر عن النصوص التي نشرت في الكتب إلى جوار لوحاته، رسم الريف والبادية والمدينة، رسم الأطفال والشيوخ والنساء والرجال، رسم الحيوانات التي يحبها الأطفال، رسم الأشجار المثمرة، وتحتها الناس يعيشون لحظات الاستجمام، رسم الأسرة السورية في كل تفاصيلها الحياتية، رسم الفلاح الملتصق بأرضه، والعامل المتفاني بعطائه في معمله، والمعلم والمهندس وصغار الكسبة.
رسم الأطفال ذكوراً وإناثاً، وأبدع في رسم ملامح الوجه السوري النبيل، سليل الحضارة العريقة، فكان خير سفير لهذه الحضارة، وخير من جسد أبناءها في رسوماته، فقد كان يرسم أطفال الحارة والحيّ، يتلقف ملامح السوريين من حوله، ثم يهضمها في ذائقته البصرية، ويعيد صياغتها عبر ريشته دفقاً مميزاً من الخطوط والألوان، كان يرسم السوري الذي ينهض بأبنائه نحو المجد، كان يرسمنا وعرائس الزيت والزعتر في حقائبنا إلى جانب كرّاسات الكتابة والرسم.

شخصيات أبدعتها ريشته
إن ما يميز الفنان ممتاز البحرة، إضافة إلى رسومه المتقنة وألوانه الجميلة، هو ذلك الكم الكبير والثري من الشخصيات التي أبدعها، والتنويع في تقديم أنماط الرسوم في فن القصة الطفلية، فمن بيئة التراث القديم إلى البيئة المحلية المعاصرة، ومن الرسوم الخيالية إلى الكاريكاتير والرسم الساخر.
أسامة، شخصية البطل التي أبدعها ممتاز البحرة منذ الأعداد الأولى من مجلة أسامة عام 1969، ذلك الطفل الأنيق بقميصه الأخضر، وصدريته البرتقالية، ثم تلك التسريحة التي تدل على حسن العناية بالمظهر، كأن الفنان ممتاز البحرة يقول لأطفال سورية حينها: «كونوا كأسامة»، وحين ننظر إلى تفاصيل ذلك الوجه الأسمر بحاجبيه الكثّين، نعرف أن البحرة، كان يرسمنا نحن على شكل أسامة، بكل تفاصيلنا السورية المحببة.
حديدان: تطرق إلى لون رسم الحيوانات وأنسنتها، وقد كانت مغامرة حديدان المأخوذة من الأثر الشعبي السوري مثالاً واضحاً، يعكس قدرة هذا الفنان على التقاط مفردات تشريح الحيوان «الأرنب مثالاً»، ثم توظيفه حسب المشهد والحركة الدالة على الحدث، ويمكننا أن نختصر هذه الرحلة في خطوط ممتاز البحرة وتجسيده أهم شخصيات مجلة أسامة بالقول: «شيخ الكار نفخ في ريشته من روحه ألحاناً، فلا بد من أن تجد نغماته صداها في روح كل من يرى رسوماته وشخصياته الطفلية».

ترجل أمير اللون
في صباح يوم الإثنين 16 كانون الثاني 2017، وعن عمر ناهز التاسعة والسبعين، سقطت دواة الحبر مع الريشة المعدنية، وانداحت الألوان في سماء دمشق.
ومطر خفيف انهمر كنوع من الوداع لصاحب المقام الرفيع في إسعاد أطفال سورية، وترجل أمير اللون والريشة الجميلة، وأعلن لأطفال سورية وداعه الأخير بابتسامة وأمل بمستقبل جميل للذين رباهم، ورسم لهم الفرحة طوال سني طفولتهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن