عن الخطاب الديني وجدلية «العقل والنقل»: إيَّاكم أن تكرَهوا الحقيقة
| فرنسا – فراس عزيز ديب
ربما كثرٌ هم من يؤمنونَ بمقولة «علمتني الحقيقة أن أكرهها فما استطعت»، فالحقيقة لم تُخلق لتجعلنا نشعر بالطمأنينة بل لتجعلنا متنبهين أنه لا زال بإمكاننا أن ننشدَ الطمأنينة، لتصبح الحقيقة وكأنها جوهر العقل وصفوةَ محاكماته، فالقرآن الكريم سما بلفظِ «العقل» من مجردِ اسمٍ لم يرد ذكره إطلاقاً، إلى تحريضٍ على فعل التعقل: «إنّا أنزلناهُ قرآناً عرَبياً لعلَّكم تعقِلون»، بل تحريضٍ للتمردِ على كل ما يخالف العقل: «وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزلَ الله قالوا بل نتبعُ ما ألفَينا عليهِ آباءنا أوَلوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون»، حتى ديكارت عندما أطلق عبارة «أنا أفكر إذاً أنا موجود» فلأنه ربط التفكير بالحقيقة الأهم وهي وجودنا نحن، فلا حقيقة بلا تفكير، ولا تفكيرٍ بلا عقل، الذي لا يمكن لنا تحت أيّ ظرف أن نضعهُ على الرف فنتحول إلى مجردِ آلاتِ تسجيل نكرَّر فقط ما يشاؤونهُ لنا من اسطواناتٍ دينيةٍ كانت أم أيديولوجية، رسميةً كانت أم شعبية، وبمعنى آخر فإن العقل منحك فضاء من الحرية لا يجب أن تسمحَ لأحدٍ بأن يسلبك إياه، وبصورة عكسية حذار من محاولة رسم حدودٍ وهمية للفكر الحر بل دعوا الفكر الحر يرسم حدودهُ بنفسه، لا تحاصروه بأحاديثَ من قبيل «لحوم العلماء مسمومة» ولا ترفعوا بوجههِ سيف العقاب، عندها سيتحول المجتمع بكاملهِ لحالةٍ من الفوضى الفكرية وما يجري حالياً خيرَ مثالٍ على ذلك، فما الجديد؟
عندما تتصارع أمامك فكرتان بطريقةٍ أقرب للتطرف، فإن المنطق يحتِّم عليك ابتداعَ فكرةٍ ثالثة تحاول فيها لم شملهما، هذه الفكرة الثالثة لا تشبه «التيار الثالث» الذي ظهرَ بعد بداية الحرب على سورية لأن الصراع الذي نتحدث عنه هنا ليس على جوهر الانتماء الوطني كما هي الحرب على سورية، لتصبح فيها الرمادية أقرب للطعن بالوطن، نحن نتحدث هنا عن صراعِ أولويات، بين ما هو رسمي وبين ما هو شعبي حول الوجه الحقيقي الذي نريده لمستقبل سورية، وبالتأكيد إذا استثنينا الجيش العربي السوري كـ«مؤسسة حكومية» فعلى المستوى الشخصي لا أجد نفسي مضطراً للدفاع عن أي شيء يتعلق بالحكومة لأن لديها ما يكفي من المدافعين و«المطبلين»، لكن في المقابل فإن الانحياز لوجهة النظر الشعبية لا يعني أن نتعاطى مع كل ما يريده الشارع وكأنه كتابٌ منزل.
من إخراج الصراع بين العقل والنقل إلى السطح، وصولاً إلى تجريم الأكل والشرب في المدينة الجامعية في حلب خلال شهر رمضان المبارك، وإلى اتفاقية التعاون التي وقعتها وزارة الأوقاف مع جامعة البعث، شكلت هذه العناوين وما تخللها من تفصيلاتٍ صغيرة مادة دسمة لتراشق الاتهامات على وسائل التواصل الاجتماعي بين من يرى في كل ما يجري محاولةً لبسط تيار يمثل «الإسلام السياسي» نفوذهُ على بعض مفاصل الدولة، وبين من يرى أن ما يجري أمر ضروري لإيصال الفكر الديني المعتدل لكل السوريين، لكن دائماً ما يمكننا أن نصطاد من «الاختلاف» جوانب ايجابية لابد من تعويمها، فمثلاً في كل السجالات التي حدثت أو كعيناتٍ نشطت على مواقع التواصل الاجتماعي، كان واضحاً أن الاصطفاف ليس مقلقاً بمعنى أنك تجد بين المدافعين عن وجهة النظر الرسمية أشخاصاً ليسوا متدينين حتى بالحد الأدنى، وهناك من هاجمَ وجهةَ النظر الرسمية وهو الآتي من بيئةٍ ملتزمةٍ دينياً لكنه بالنهاية لا يريد أن تتكرر تجربةَ الإسلام السياسي في بلده ولو بصورةٍ مموهة.
هذه المفارقة لابد من النظرِ إليها بعنايةٍ والاستفادةِ منها في طرح القضايا الشائكة، بل إنها تثبت أن السوري الحقيقي علماني بالفطرة، عليكَ في النهاية أن تستفيدَ من علمانيتهِ لا أن تستفزها بقراراتٍ خاطئة لمسؤولين من المفترض أنهم قادمون من خلفيةٍ حزبيةٍ «علمانية» ؟ فبعد بيان «هيئة الأمر بالمعروف» في المدينة الجامعية في حلب الذي يُعتبر مخالفة دستورية وقانونية استغربنا كيف انتهت بسياسة «تبويس الشوارب»، جاء الاتفاق الموقَّع بين وزارة الأوقاف وبين جامعة البعث ليعيدنا إلى المربع الأول: هل هناك فعلياً من يتعمد استثارةَ الشارع، فبالكاد ننام على قضية، لنستيقظَ على الثانية؟
في آليات بناء الدولة، فأنت بحاجةٍ لتحصينِ أهمّ ثلاث مؤسسات: الجيش والتعليم والقضاء، هذا التحصين يشمل كل ما قد يسبب لهم الاهتزاز، بما فيها صبغَ هذه المؤسسات بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بصبغةٍ دينيةٍ ما، في الجيش نجحنا ببناءِ جيشٍ عقائدي مع ترك الحرية الدينية لكل من يريدها في إطار الممارسة، أما القضاء فلا زال أسيراً للصراع بين القانون الوضعي والقانون الديني، و لعل خير مثالٍ هو ما قاله القاضي الشرعي عندما سُئل عن «أغلى مَهرٍ» معللاً ذلك بأن الزوجين يتمتعان بالأهلية واختارا هذا المهر، لكن لفظ «التمتع بالأهلية» يطرح تساؤلات عميقة أهمها: هل الزيجات التي تتم بعقودٍ عرفية لقاصرين ذكوراً أم إناثاً وهناك في مجلس الشعب من يسعى لمنع تجريمها، هي زيجاتٌ نظامية إذا كنا نتحدث عن «الأهلية» في اتخاذ القرارات المصيرية، ماذا عن الزواج بين شخصين من دينين مختلفين هل هناك من سيعارض إقراره حتى لو استندنا لمفهوم «الأهلية» بالاختيار أم إن «الأهلية» هنا تصبح انتقائية!
أما في التعليم وهنا بيت القصيد، فمنذ بدايةِ الحرب هناك من بات يخاف فعلياً من تغلغل «الإسلام السياسي» في المفصل الأهم للدولة، هذا التخوف لا يبدو بالنهاية ناتجاً عن فراغ، وإذا كنا نتحدث عن الاتفاق الموقع بين جامعة البعث ووزارة الأوقاف فإن كلا الطرفين جهة رسمية حكومية فهل يحتاج التعاون بينهما لتوقيعِ اتفاقٍ وعرضَ هذه الصور وكأن الاتفاق الموقّع تم بين الجامعة وإحدى وكالات الفضاء؟ لماذا لم نر هذا التحشيد الإعلامي مثلاً عندما كانت مؤسسة الصناعات الغذائية توقِّع عقداً مع المؤسسة الاستهلاكية لبيع منتجاتها!
النقطة الثانية: ما هو إطار التعاون الذي يتحدثون عنه، هل حقاً إن جامعاتنا بحاجةٍ لندواتٍ دينية لكي يتم تعليم الشباب الدين الصحيح، ومن قال أساساً إن الدين الصحيح علينا أن نأخذه من شخصٍ هو بالنهاية موظف حكومي، وكيف لنا أن نثق أن هذا المنبع الذي يأخذ منه هذا الشخص هو منبع سليم؟ حتى إن تفاءلنا بالسعي لإحداث ثورة في التوازي بين «العلم والدين» عبر استثمار الفائض المالي في وزارة الأوقاف الناتج عن استثمارات المناطق الوقفية في العلم، فهناك من نسفَ هذا التفاؤل أساساً عندما أعطى العقل الدرجة الثانية في الأولوية.
النقطة الأخيرة: أننا إذا قمنا باسترجاع ذكريات أكثر من خمسين عاماً لم يتم فيها السماح لأيّ حزبٍ سياسي بما فيهم أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية من العمل ضمن المنشآت التعليمية، فما الذي يجبرنا اليوم على التعاطي مع الجهات الدينية، لكن ماذا عن الطرف الثاني؟
مبدئياً لا يمكننا ببساطة أن نتبنى وجهة نظر الطرف الآخر كسلةٍ كاملة تحديداً أنه بعكس الأول منقسم على نفسهِ، بل إن بينهم من يفوق «داعش» نفسها في التطرف وإلغاء الآخر وصولاً لعدم القدرة على التمييز بين الدين كحالةٍ سامية ترتقي بالروح، وبين «المتدين» أو المتاجر بالدين، فالأديان بالمطلق لم تخطئ ولم تدع للقتل لكن هناك من أخذ الأديان حيث يريد، واستخدمها مثلاً في حرب المئة عام بين البروتستانت والكاثوليك، أو لبناءِ كيانٍ مسخ ديني كما يجري في فلسطين المحتلة، أو حتى في مصطلح «الفتوحات الإسلامية» نفسه، لكن هناك في هذا الطرف من يطرحون أفكاراً عقلانية وتخوفاتٍ منطقية، هؤلاء لابد من الاستماع لمطالبهم والوصول معهم لحلٍّ وسط، فليس كل من يطرح تساؤلاتهِ عميلاً، والمشكلة تبدو عند من لا يريد أن يقتنع أننا في زمن لا يمكنك ببساطة أن تتعاطى فيه مع الشعب وكأنه روبوت توجهه حيث تشاء، ومن لا يزال الزمن متوقفاً لديه عليهِ أن يراجعَ نفسهُ قبل أن يكيل الاتهامات هنا وهناك.
في الخلاصة، الجميع مخطئ، لكن كل هذا الكلام لم يعد نافعاً، علينا أن ننظر للمستقبل بطريقةٍ أكثرَ واقعيةٍ وعقلانية، وليس بطريقة تعيدنا آلاف السنين للخلف، هل لدينا إسلام سياسي في سورية؟ نعم لدينا ومن ينكر هذه الفكرة هو كمن حاول إقناعنا أن «الإسلام السياسي» بنى دولة، عندها علينا أن نعلم أن ترك الأمور بهذه الطريقة العشوائية ليس بصالح أحد واستخدام شماعة تجديد الخطاب الديني للولوج إلى أماكن من المفترض أن تكون عصية على هذه الإيديولوجيات أمرٌ مرفوض، لأننا ببساطة لسنا بحاجة لتجديد الخطاب الديني، نحن بحاجة لتجديد علاقة الدولة ككيان رسمي بالدين، هل أنتجت هذه العلاقة في كل النماذج التي نعيشها سوى الكوارث؟
المفارقة بسيطة جداً: لماذا عندما يتحدث المعتدلون الناقدون لتغلغل الإسلام السياسي في مفاصل الدولة يستثنون مفتي الجمهورية أحمد حسون من حديثهم وانتقاداتهم؟ فعندما نفهم هذه المقاربة سنفهم ما المشكلة التي نعاني منها، لكننا للأسف لازلنا نكره الحقيقة.