على ضفتي الأطلسي
| عبد المنعم علي عيسى
فرضت الحرب العالمية الثانية وما تلاها قيام تحالف ما فوق إستراتيجي بين فرعي الحضارة الغربية على ضفتي الأطلسي، هذا التحالف تنامى بفعل الحرب الباردة انطلاقاً من أن أميركا كانت مدركة جيداً أن أحد أسباب قوتها الكبرى هو وجود أوروبا قوية بجانبها، وفي هذا السياق كان إطلاق الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور مشروع «مارشال» لإعادة إعمار أوروبا، وهو المشروع الذي لم يتوقف إلا في مطلع السبعينيات من القرن الماضي عندما أضحى الاقتصاد الأوروبي منافساً حقيقياً للاقتصاد الأميركي في مؤشر يرسم التخوم التي يمكن للتحالف أن يقف عندها، وبالتأكيد احتوت المرحلة المديدة من عمر التحالف الكثير من الخضات إلا أنها كانت من نوع الخلافات التي يفرزها «اقتصاد السوق» ولذا فقد كان محكوماً عليها بالطي تحت الوسادة ما دامت لا تمس المحرمين: الأمن القومي واقتصاد السوق المقدس.
طرح انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني تحدياً كبيراً بوجه العلاقة الأميركية الأوروبية التي يبدو هذا الأخير وكأنه يريد لها أن تتأزم، ظهر ذلك في سلوك الصلف الكبير الذي استقبل به الرئيس الفرنسي الذي زاره أواخر نيسان الماضي في واشنطن لإقناعه بالعدول عن قرار الانسحاب، وهو ما ترى فيه القارة العجوز إصراراً أميركياً على تهميش دورها العالمي، لكن يبقى السؤال الأهم وهو: هل الخلاف البادي على السطح الأميركية الأوروبية الآن حقيقي؟ خصوصاً أن العديد من المحللين كانوا قد وضعوه في جعبة «توازع الأدوار» فحسب.
في العلاقات الدولية لا يكون الخلاف حقيقياً إلا إذا أدى إلى الأضرار بالمصالح الاقتصادية لأطراف الخلاف، ولذا يمكن النظر إلى إعلان واشنطن الأخير يوم الجمعة الماضي بفرض رسوم على واردات الصلب والفولاذ والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك على أنه خطوة في هذا الاتجاه، لكن على الرغم من أن تلك الخطوة كانت من النوع الموجع وقد وعدت أوروبا بالرد عليها، إلا أن وجود كندا والمكسيك يمكن أن يطرح ريبة في إمكان النظر إلى ذلك القرار على أنه حالة احتياج اضطر الأميركيون إليها وخصوصاً أن هؤلاء قد وضعوها في إطار السياسات «الحمائية» للاقتصاد الأميركي، وبهذا المعنى فإن أوروبا لا تعود مقصودة وربما تعزز هذا الاحتمال عبر إعلان ترامب بأن اتفاق «نافتا» للتجارة مع أميركا اللاتينية الموقع في عام 1994 هو اتفاق سيئ للأميركيين، لكن ما لبثت المؤشرات تتالى لتدل على وجود «خلل» حقيقي كان أم وهمي في العلاقة بين ضفتي الأطلسي، فقد وقفت أميركا عارية أيضاً يوم الجمعة الماضية عندما كانت هي الوحيدة الرافضة لمشروع القرار الكويتي لحماية الفلسطينيين، والعري جاء مزدوجاً بعدما أصرت الدبلوماسية الأميركية على طرح مشروع قرار يقضي بإدانة استهداف الفلسطينيين للمستوطنات والمستوطنين فقد جاءت النتيجة أيضاً أربع عشر رافضاً وواحداً أميركياً مؤيداً، وما جرى يمكن له أن يشير هو الآخر إلى وجود خلل ما بين فرعي الحضارة الغربية بشكل عام، إلا أن الأمر أيضاً يمكن أن تكون له مخارج أخرى، فالعلاقات الدولية كثيراً ما تشهد ظاهرة هي أشبه ما تكون بـ«التقية» السياسية وخصوصاً إذا لم تكن المواقف مؤثرة في النتائج، بمعنى أن فرنسا، مثلاً، قد تكون ذهبت إلى تأييد مشروع القرار الكويتي عندما أيقنت بأن واشنطن ماضية بالتأكيد نحو رفض قاطع للقرار فأرادت تبييض صفحتها الإنسانية دون أن يؤثر ذلك في الأهداف المرجوة.
الآن يمكن القول إن كلا المؤشرين السابقين يحويان ثغرات تجعل منهما غير صالحين كدليل قاطع على وجود شرخ حقيقي في العلاقة الأميركية الأوروبية، ولا بد من انتظار المزيد من المؤشرات اللاحقة، لكن بقي هناك احتمال مهم يمكن اختصاره بالقول إن الحرب التجارية الأميركية الأوروبية إذا ما اندلعت فإنها ستصب في مصلحة روسيا والصين بالدرجة الأولى، وهو أمر يفضي إلى تأثير مزدوج في الأوروبيين وخصوصاً أن التصعيد الأمني يطل برأسه فوق بحر البلطيق الذي تقف دوله الآن في مواجهة روسيا على حين أوكرانيا تحث خطاها لتصبح عضواً في حلف الأطلسي.