سياسة حافة الهاوية وتدهور الليرة التركية: مصيدة أردوغان الانتخابية
| قحطان السيوفي
خبراء الاقتصاد في تركيا يتندرون في أوساطهم، بقولهم إن الليرة التركية هي اليوم المعارضة الرئيسية الصامدة في تركيا في وجه الرئيس رجب طيب أردوغان، ومن المؤكد أنها خصم مهم ومؤثر.
في الثامن عشر من نيسان الماضي، فاجأ أردوغان الأتراك بالإعلان عن تقديم الانتخابات بفترة عام ونصف العام، وأعلن أن الاضطرابات في سورية والعراق المجاورتين تتطلب التحول لنظام جديد، سوف يلغي دور رئيس الوزراء ويعزز بشكل جذري سلطات الرئيس، ومنذ أكثر من أسبوع والليرة التركية تتعرض لهبوط مدوّ، يمكن وصفه في الإطار العام بـ«التاريخي»، إذ انخفض سعر صرفها أمام الدولار الواحد من 3,75 إلى 4,92، وهو ما أدى إلى حالة من الارتباك في الأسواق المالية ولدى المستثمرين الأجانب الذين بادروا فوراً إلى التخلص من الليرة لمصلحة العملات الأخرى، ما دفع نحو المزيد من التراجع في سعر صرفها، وعمليا خسرت العملة التركية أكثر من 25 بالمئة من قيمتها خلال مدة قصيرة وارتفع العجز التجاري للبلاد إلى 37,5 بالمئة.
أردوغان السلطان العثماني الديكتاتور يحلم أن يصبح زعيم تركيا الأكبر، منذ عهد مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، وسياسة حافة الهاوية التي يتبعها خلقت مزيجاً ملتهبا مكونا من الشعبوية الانتخابية، الأمر الذي دفع البلاد إلى حافة أزمة اقتصادية وسياسية، أردوغان قال: إن أطرافاً داخلية تتعاون مع جهات خارجية للضغط على البلاد والإضرار بها من خلال الاقتصاد، وإن كل ما يحدث «مؤامرة» لإسقاطه في الانتخابات المقبلة، ويَدعى «أن أعداء تركيا» يختبئون خلف مضاربي العملات، وتسبب ذلك في قلق لدى المستثمرين.
تحذر الخبيرة في استراتيجيات الأسواق في بنك «سوسيتيه جنرال» فينيكس كالن، من توالي الكوابيس في تركيا وكر سبحتها، إذا لم تتغير وجهة القيادة السياسية فيها، وترى أن احتمال فوز المعارضة بالرئاسة قد يحسن قيمة الليرة، ووراء الأبواب المغلقة، يقر أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم، أنهم يخشون الخسارة إذا بقيت الانتخابات في موعدها تشرين الثاني 2019.
واقعيا بدأ عقد قاعدة الحزب الحاكم ينفرط وينهار، فالجماعات التي أيدت في الماضي أردوغان بدأت في الابتعاد، وهو مُستمر في زج المزيد من المعارضين في السجن، وأشار بعض استطلاعات الرأي إلى أن الحزب يمكن أن يخفق في الفوز بأغلبية برلمانية وأن أردوغان قد يضطر لإجراء جولة إعادة للانتخابات الرئاسية، كما أن التحفيز المالي الحكومي الذي جرى بعد محاولة انقلاب تموز عام 2016، أدى إلى تفاقم معدل التضخم الذي وصل إلى ما يقارب 11 في المئة.
يقول المحلل لدى الهيئة الاستشارية «جلوبال سورس بارتنرز» أتيلا ييسيلادا: إن أردوغان وحزبه الحاكم وجدا نفسيهما في مصيدة ويجب عليهما إرضاء الناخبين، لكن كل خطوة يتم اتخاذها لإرضاء الجماهير المحلية تثير فزع المستثمرين الأجانب.
قبل أكثر من أسبوعين، قام أردوغان بزيارة بريطانيا، وصرح في مقابلة مع «بلومبرغ» بأنّ «الرئيس يجب أن تكون له سلطة على السياسة الاقتصادية والنقدية بعد الانتخابات»، انتهت الزيارة وتسببت بوصول الليرة التركية لمستويات مُتدنية، ما فرض ضغوطات على قطاع الشركات المثقلة بديون العملات الأجنبية، التي وصلت إلى 295 مليار دولار، وقد ازداد إحساس أردوغان المفرط بالخوف بعد الاحتجاجات العارمة وتحقيقات الفساد ومحاولة الانقلاب، وكان في السنوات السابقة يستغل الهجمات الإرهابية والخلافات الحادة الملتهبة مع الحلفاء الغربيين لتحقيق مكاسب انتخابية، وبدأ الأتراك في تداول إشاعات عن فرض ضوابط وشيكة على رأس المال، وهرعوا إلى شراء الذهب، وقد نشرت صحيفة «جمهوريت» المعارضة، رسما كاريكاتوريا لطفل حديث الولادة يُسأل عن السبب في ولادته قبل الأوان، ورد الطفل: لا خيار أمامي فاتورة المستشفى مرتبطة بمؤشر الدولار.
الأسبوع الماضي، بدا وكأن الأزمة آخذة في التعمق بعد أن خسرت العملة التركية 5 بالمئة من قيمتها خلال يوم، ومنخفضة بنسبة 17 بالمئة منذ الإعلان عن الانتخابات في نيسان الماضي.
حذر أردوغان من أن تركيا «لن تسمح لمبادئ الحوكمة العالمية من القضاء على بلاده، كان هذا التصريح أقرب ما يمكن إلى اعتراف أردوغان بأنه مذنب.
يدعي المنتقدون أنه سيفعل أي شيء، ولو كان التلاعب بالأصوات، لتحقيق الفوز، وكتب كبير الاقتصاديين في «كابيتال رينيسانس» تشارلز روبرتسون الأسبوع الماضي: «على المدى القصير، ضعف الليرة سيعمل على إيذاء الإقراض المصرفي، وإلحاق الضرر بنمو الاستثمار والاستهلاك»، كما ذكرت صحيفة «الفاينانشال تايمز» أن اردوغان يصارع «طواحين السوق» عشية انتخابات مبكرة معلنا أن «أعداء تركيا» هم وراء المضاربة في سوق العملات، وتدق مؤشرات ناقوس الخطر، وتشير إلى تدهور صحة الاقتصاد التركي.
بينما يحاول أردوغان التركيز على «نظرية المؤامرة»، يضع الخبراء أمامهم أسباباً أخرى للأزمة، ففضلاً عن «تدخلات أردوغان الفظة في السياسات المالية وضغوطه على المركزي»، ثمة غموض سياسي كبير في البلاد، من تقديم موعد الانتخابات، إلى تحمّل الحكومة تكاليف باهظة لعملياتها العسكرية داخل البلاد وفي سورية والعراق، والركود المتزايد في قطاع العقارات، وتبعات الآثار الاقتصادية لمحاولة الانقلاب الأخيرة، وارتفاع نسبة التضخم، إضافة إلى قرار إعادة جدولة الديون القصيرة الأجل، إلى جانب التقييمات السلبية للاقتصاد التركي لدى وكالات التصنيف الائتماني العالمي، التي انخفضت بشكل ملحوظ أخيراً.
بعيداً عن الطباع الشخصية لأردوغان وتصرفاته وسياساته وتقلباته ومواقفه المتناقضة ومصالحه المتشعبة وتحالفاته الانتهازية، ودعمه اللا محدود للتنظيمات المتطرفة الإرهابية وخاصة في سورية، إلا أن أردوغان وجوقته يحاولون إخفاء عيوب ذلك النموذج وسياساته الفاشلة وعلاقاته بإسرائيل، وكذلك الليرة المنهارة، وأخيرا إن سياسة حافة الهاوية، وضعف الاقتصاد، وانخفاض قيمة الليرة التركية أكثر من 25 بالمئة من قيمتها خلال مدة محدودة، أوقعت أردوغان في مصيدة قبل الانتخابات المبكرة، وأعادت التذكير بما حدث في شرق آسيا عام 1999 فيما يعرف بالأزمة الآسيوية التي بدأت بانهيار العملة التايلندية.