اقتصاد

تجارة الغاز العالمية: درس صوفيا

| علي محمود هاشم

لم يكن ليجدر بأوروبا أن تتأخر إلى هذا الحد حتى تتحرر من ربق تطلعات الولايات المتحدة للهيمنة على تجارة الغاز العالمية بعد النفط.
وفق المعيار الطاقوي، ثمة انقلاب أوروبي تتالى فصوله بهدوء راهناً مرتداً بالقارة إلى اللقاء التاريخي لمصالحها مع روسيا.
نهاية التسعينيات، اندلعت حرب الغاز ضد روسيا مع محاولات بريطانيا والولايات المتحدة وقف زحف احتياطياتها إلى أوروبا، فشكلت الأراضي التركية مسرحاً لسلسلة معارك كان أبرزها إطلاق الغرب أنابيب «نابوكو» لنقل الغاز من قزوين إلى النمسا التي ستلعب دور محطة الإمداد القارية وسط أوروبا، قبل أن ينقشع غبار المعركة منتصف العقد الماضي عن انتصار روسي ساحق نجح في تدمير الفكرة واجتثاث جذورها عبر الاستحواذ على الكتلة الرئيسية من غاز قزوين.
خلال العقدين الأخيرين، دفعت أوروبا ثمناً باهظاً من أمنها واقتصادها وصورتها العالمية للحصول على إمدادات مضمونة متناسبة مع تنافسيتها الاقتصادية، بعدما قبلت السير تحت ظلال سيوف تنظيم «الإخوان المسلمين» تمشياً مع خطط بريطانيا والولايات المتحدة استعماله شرق المتوسط لإشادة قناطر الطاقة المتدفقة نحو أوروبا، عبر إنشاء ممر جنوبي بديل لنابوكو يخترق سورية جنوباً شمالاً، قبل أن يودي فشل هذا الرهان على طبائع القوة الإمبراطورية الأمريكية، إلى شفا عصر جديد متعدد القطبية.
في الأيام القليلة الماضية، بدأت تلك المرحلة تفصح عن نهاياتها، فعلى قاعدة تجارة الطاقة الدولية وتعرّي التنمّر الأمريكي إبان انسحابه من الاتفاق مع إيران ضارباً عرض الحائط بمصالح شركائه؛ ذهب بعض أوروبا إلى انقلاب متسارع تخفف عبره من عبء البعض الآخر الموالي للغرب، واضعاً حداً للعبة «السد القانوني» أمام أنابيب (السيل الشمالي 2) المتدفقة أسفل بحر البلطيق فألمانيا شمالاً.
أما «السيل الجنوبي» الذي يخترق بفرعيه التركي والأوروبي؛ أعماق البحر الأسود، ورغم انصياع بلغاريا الطويل للرغبات الأمريكية برفض تمريره نحو أوروبا، فقد اتخذ اليوم منحى مغايراً إبان الاتفاق الذي أبرمته صوفيا وموسكو منذ أيام لإعادة إحياء فرعه الأوروبي، بالتزامن مع تلميحات روسية للقبول بإعادة إحياء أنابيب «غازبروم» عبر أوكرانيا التي تم اصطناع انقلابها عام 2014، للإطاحة بها.
حتى النمسا التي طالما شكلت نهاية رأس حربة حرب الغاز على روسيا، بدأت اليوم أيضاً بإعادة هيكلة علاقاتها الطاقوية مع موسكو، لتواجه فرنسا، المتلهفة للاضطلاع بدور ما في تجارة الطاقة، خيار تلقف التلميحات الروسية والقبول بإشراكها في استثمارات أنابيب السيلين الشمالي والجنوبي، والاتعاظ مبكراً من «درس صوفيا» الذي أسهم سوء تلقيه بخسارة بلغاريا عائدات ضخمة ومزايا تفضيلة إبان رفضها تمرير السيل الجنوبي إلى أوروبا.
شرق المتوسط، ثمة متغيرات مواكبة قد تكون متعاكسة للأرباح الروسية في أوروبا، فتركيا، المسرح الأول لحرب الطاقة الأوراسية، ورغم مكافأتها روسياً عبر إزاحة «السيل الجنوبي» من أوكرانيا وبلغاريا نحو أراضيها تحت مسمى «السيل التركي»، ذهبت مع أذربيجان قبل أيام، للإعلان عن إطلاق خطوط «تاناب» التي تعد نسخة محاكاة مصغرة لأنابيب «نابوكو».
بطبيعة الحال، يصعُب النظر إلى «تاناب» القديم الجديد من قزوين إلى أوروبا كتجدد لاشتعال جبهات حرب الطاقة على روسيا، فقطره الصغير الذي يتسع لـ10 مليارات متر مكعب سنوياً فقط، ليس له- راهناً- أن يتهدد أقطار الأنابيب الروسية التي مررت 192 مليار متر مكعب العام الماضي، بينما هي مرشحة لزيادة تقارب الـ45 ملياراً بعد انتهاء الفرعين الجديدين من السيلين الشمالي والجنوبي.
في سورية، مسرح الانكسار الحاسم للحرب الطاقوية على روسيا إبان انتقالها من البرّ التركي إلى الصحراء السورية، فلا يزال الأمر ضبابياً إلى حدّ ما، فإن كانت روسيا مطمئنة لانطلاق «تاناب» وفق اتفاق من طراز ما مع تركيا، أم إن تركيا ذهبت بالاتفاق مع بريطانيا والولايات المتحدة إلى ذلك المشروع بقرار منفصل، فإنه في كلتا الحالتين بات الأمر يستدعي الاستعداد لإطلاق عمليات التنقيب عن الغاز السوري في البحر والبرّ.
وفق احتمال التفاهم الروسي التركي حول «تاناب» الذي يعززه محدودية القدرة الحالية للأنبوب وعدم تهديدها للأنابيب الروسية، يتمظهر بعد أخلاقي يجب أخذه بالحسبان، إذ إن تركيا التي لطالما شكلت إحدى الحراب المسننة على الغاز الروسي، باتت اليوم تتمتع بقوة هذا الغاز الذي أعاد صياغة أهمية جغرافيتها الاقتصادية بطريقة استثنائية.
أما الاحتمال الآخر، وملخصه ذهاب تركيا منفردة إلى «تاناب» ولهذا الأمر ما يعزز مشروعيته إن على صعيد التقارب التركي الأمريكي المستجد، أو على خلفية ذهاب روسيا إلى فصل التفريعة الأوروبية عن التركية للسيل الجنوبي، فهو الآخر ينطوي على بعد أخلاقي موازٍ، يحتم على روسيا المساعدة في تعجيل التنقيب عن الثروات السورية الغازية.
ذلك أن سورية التي منعت أحد أسوأ كوابيس الغاز الروسي بعدما شلّت قدرة الغرب عن تلقين موسكو «درس صوفيا المعاكس» عبر منعه من الاستحواذ على أراضيها كممر طاقوي، يبدو أن الوقت بات أكثر من مناسب للروس لمساعدة سورية في الخروج من المنعكسات الاجتماعية الخطيرة للحرب على إيراداتها.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن