نكبة ثانية وليست نكسة
| يوسف جاد الحق
لأن المسألة شائكة ومعقدة تقتضي بحثاً مستفيضاً، لا تستوعبه وتعطيه حقه هذه المساحة المحدودة، من ثم آثرنا الدخول إليها على نحو مباشر.
بأي مقياس احتسبنا ما وقع في تلك الحرب، وعلى أي نحو نظرنا إليه، وجدناه نكبة حقيقية ثانية، تضاهي سابقتها التي حلت بنا عام 1948، فلا تقل عنها هولاً في آثارها ونتائجها وتداعياتها ومفاعيلها على الصعد كافة، الوطني والقومي، المادي والمعنوي، النفسي والوجداني فنحن نعيش ذلك كله حتى يومنا هذا، لقد تغلغلت في سائر شؤون حياتنا، وأضحت جزءاً لا يتجزأ من صورة عيشنا الراهن.
لقد لجأ أصحاب الشأن والحل والربط، من القادة العرب القيمين على الحياة السياسية يومئذ إلى هذه التسمية بغية التخفيف من وطأة ما حدث، حيث كان كل شيء بسبيل الإعداد إثر عام 1948 من أجل تحرير فلسطين كاملة واستعادتها من أيدي غاصبيها، وإنهاء الوجود الصهيوني فيها، ولكن تلك الحرب لم تسفر عن النتيجة المتوخاة، وإنما حدث العكس فكان أن أطلقوا عليها هذا الاسم المبتكر، وفي مضمونه تنطوي النية على استئناف العمل والجهد للإعداد لجولة قادمة تحقق الذي كان مأمولاً، ولم يزل.
ولكن لماذا هي نكبة وليست نكسة؟
* لقد فقد العرب من الأرض في تلك الحرب ما يعادل أربعة أضعاف ما خسروه في النكبة الأولى، إذا احتل الجيش «الإسرائيلي» بقيادة اسحاق رابين ما بقي من فلسطين، الضفة الغربية التي كانت تحكم من قبل الأردن، بما في ذلك القدس، واحتل قطاع غزة الذي كانت تتولى إدارته الحكومة المصرية، هذا إضافة إلى احتلالهم سيناء المصرية حتى قناة السويس، ومعظم الجولان السورية.
* أظهرت «إسرائيل» كقوة جبارة لا تقهر تتفوق على سائر الدول والجيوش العربية مجتمعةً فبدت وكأنها سيدة المنطقة بلا منازع.
* هجَّرت وقتلت وأسرت الكثير من أهل تلك المناطق، بما لا يقل في مجموعه وآثاره عما حدث في نكبة عام 1948.
* أضعفت الزخم القومي العربي الثوري الذي كان في ذروة انطلاقته بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان قد أصبح رمزاً عربياً وعالمياً حتى ذلك الحين، كما أنها أصابت عامة الشعب العربي بغير قليل من الإحباط وخيبة الأمل في إمكان إنجاز التحرير الكامل المرتجى لفلسطين.
* فتحت باب التفاوض مع العدو الإسرائيلي واحتمالات مسالمته بتقديم التنازلات، والدخول في منطق التسويات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرض المفقودة، برغم ما يتضمنه ذلك من اعتراف ضمني، ولأول مرة، بـ«إسرائيل» الدولة واقعاً مفروضاً لا سبيل إلى نكرانه.
* عندما أجهض السادات نتائج الانتصار السوري المصري عام 1973 باتفاقية كامب ديفيد، وما تلاها، بعد ذلك اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين واتفاقية وادي عربة مع الأردن، برزت حكاية الاعتراف بقراري الأمم المتحدة 242 و3378 اللذين يقرَّان رسمياً بالوجود الإسرائيلي والموافقة على استعادة «أراضٍ» احتلت في ذلك العام تحت عنوان خادع هو «إزالة آثار العدوان» وكأن ما سبق ذلك عام 1948 حتى تلك الساعة لم يكن عدواناً!
* كان عزل مصر عن محيطها العربي وتحييدها عن الصراع العربي مع الكيان الصهيوني من أهم ما ترتب على تلك الهزيمة المنكرة لمصلحة العدو، وكان ذلك بمثابة هدية مجانية لم يكن يحلم بها من قبل.
* حققت للصهيونية إضفاء الشرعية على واقع استيلائها على فلسطين بقبول العرب لذلك الواقع ضمناً، لمجرد سكوتهم عنه، هذا فضلاً عما ذهبوا إليه من تبنيهم لمزاعمهم بأنها أرضهم الموعودة منذ آلاف السنين، وما العرب الذين أقاموا فيها ردحاً من الزمن ليسوا غير طارئين عابرين!
* دخل العديد من الأنظمة العربية مرحلة التهاون والتساهل، بل التخاذل تجاه المسألة الفلسطينية، بل إن منهم من طعن أهلها في الظهر ودمغ مقاوميها، ومن يؤازرهم بالإرهاب، فضلاً عن تطبيعهم مع العدو، وقبوله عنصراً أساسياً في نسيج المنطقة والتغاضي عن ما اقترفت أيديهم من ممارسات إجرامية على شعب فلسطين حتى ذلك الحين.
ها هي الأمور تبلغ اليوم، في ظل ما سموه «الربيع العربي» وهو من صنع الصهاينة واليهودية العالمية، عرابه بيار هنري ليفي اليهودي الصهيوني، حدوداً غير مسبوقة، توشك أن تدرج في باب اللامعقول، بحيث يقوم تحالف بعض العرب مع العدو الصهيوني يشاطره معاداة بني جلدته مقاومي محتل ديارهم، وتنكيله المستمر الذي لم ينقطع يوماً منذ سبعين سنة، يعتبره ذلك البعض صديقاً حين يذهبون إلى تصنيف إيران المسلمة، المدافعة عن المقدسات العربية الإسلامية في فلسطين والقدس، عدواً لا غضاضة في إعلان الحرب عليه لصالح الصهاينة أعداء العرب والمسلمين وسائر البشر من غير اليهود.
ويقول قائلهم إنها مجرد نكسة؟! فكيف تكون النكبة إذاً، إن لم يكن ما وقع عام 1967 على هوله وفظاعته نكبة وأي نكبة؟
ها نحن اليوم نعيش ذكراها الأليمة الواحدة والخمسين، في ظل أوضاع عربية، أقل ما يقال فيها إنها بائسة ومؤسية، استطاع الأعداء خلقها، وتعميمها في الإقليم كله، تطبيقاً لنظرياتهم ومصطلحاتهم وعناوين مؤامراتهم: «الفوضى الخلاقة»، «التدمير البناء»، «الصدمة والرعب»، «الشرق الأوسط الجديد» وما شاكلها، ولكن: على الرغم من ذلك كله تبقى هنالك جذوة من الأمل تلوح في الأفق، ما دام هناك على الساحة أحرار مخلصون، مقيمون على العهد المقدس لفلسطين والعروبة والإسلام السليم، يؤمنون بأن النصر آتٍ لا محالة.
أولئك هم سورية وإيران والمقاومة في لبنان وفي فلسطين ومن والاهم من أحرار العالم في مشارق الأرض ومغاربها.