قضايا وآراء

معركة الشرق كخطوة تالية

| عبد المنعم علي عيسى

سرت في الأسبوع الماضي العديد من الأخبار حول إمكان التوصل إلى اتفاق يقضي بدخول القوات الروسية إلى درعا وتسلم الجيش السوري للحدود مع الأردن وكذا مع الجولان المحتل، وفي مصب آخر سرت العديد من الأخبار حول توصل الأطراف الداخلة في خفض التصعيد في الجنوب السوري إلى اتفاق يقضي بعدم مشاركة القوات الحليفة لطهران في معارك الجنوب، وربما كان هناك توافق أيضاً على أن يكون أقرب تموضع لتلك القوات على مسافة لا تقل عن 70 كم عن شريط فصل القوات في الجولان المحتل، في مقابل التزام تل أبيب بعدم مشاركتها أو دعمها لميليشيات المعارضة العاملة في الجنوب والجنوب الغربي من البلاد، وهو ما أكده مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة فاسيلي نيينزيا الخميس الماضي عندما تحدث عن التوصل إلى اتفاق لفصل القوات في الجنوب الغربي من سورية.
من يرقب حالة رفع السقوف التي اعتمدتها تل أبيب في المرحلة الماضية فيما يخص الحضور الإيراني، يلحظ كيف كانت المطالب أولاً بابتعاد هذا الأخير لمسافة 40 كم، ثم ما لبثت أن تزايدت إلى 70 كم قبل أن يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأسبوع الماضي عن أنه لن يقبل بوجود إيراني عسكري على امتداد الجغرافيا السورية، من يرقب هذه الحالة يلحظ أيضاً أن الخطاب المستخدم فيه الكثير من الخيلاء المصطنعة، وربما كان ذلك ناجماً عن أن تل أبيب ترى أن الظهير الأميركي هو في أفضل حالاته الداعمة لها، وحكومة الصقور التي تضم مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو ووزير الدفاع جيم ماتيس، تتيح لها تحقيق المزيد من المكاسب في الوقت الراهن، ولذا فقد ذهبت إلى اشتراط إلغاء الوجود الإيراني وهي تدرك أنه لن يحصل، فيكون ذلك ذريعة لاستمرار حلقات الاستهداف الجوي لمواقع جديدة على الأراضي السورية في كسر للتوافق بـ«لغة الإشارة» الذي خلفته ليلة الصواريخ في العاشر من شهر أيار الماضي.
من الواضح أن موسكو كانت مصرة على نزع فتيل التفجير حتى إن اقتضى الأمر الضغط على حلفائها منعاً لنشوب حرب إقليمية كبرى من شأنها أن تعيد خلط كل الأوراق في المنطقة من جديد، ثم إنها لا تريد استثارة الغرب بل تعمل على مغازلته عبر الحديث عن جولة جديدة من جنيف، والراجح هو أنها تؤيد فعلاً انعقاد جنيف في هذه المرحلة حيث خرائط السيطرة هي لمصلحة الحكومة السورية وحلفائها، والميليشيات المعارضة لم تعد تسيطر على أي رقعة جغرافية مؤثرة، وهذه الحالة تتيح الاستحصال على مكاسب مهمة في سياق التسوية السورية، أما إذا لم تستجب المعارضة لحقائق الأرض ومناطق السيطرة بدفع ودعم من الغرب فعندها يمكن الذهاب سريعاً نحو جولة ثانية من مؤتمر سوتشي كخيار من السهل التلويح به أو استخدامه كورقة ضاغطة، وإن كانت موسكو لا تفضل خياراً كهذا، وهو ما يمكن تلمسه في تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أدلى به على هامش مؤتمر سان بطرسبورغ الاقتصادي عندما عبر عن استعداد بلاده للتواصل مع «المجموعة المصغرة» التي تضم أميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن ومن ثم انضمت إليها ألمانيا مؤخراً، هذا التصريح يعتبر مؤشراً مهماً إلى تحول روسي تجاه الغرب فيما يخص التسوية السورية، فموسكو ومنذ أن أعلن عن قيام تلك المجموعة في العام 2015 لم تعرها أي اهتمام، على حين نص البيان الصادر بعد لقاء الرئيسين الروسي والفرنسي أواخر الشهر الماضي على وضع «آليات للتنسيق بين المجموعة المصغرة وفعاليات أستانا»، لكن على الرغم من ذلك فإن تنزيل هذا الكلام على الأرض يبدو احتمالاً صعباً إن لم يكن مستحيلاً انطلاقاً من وجود العديد من الخلافات بين موسكو والغرب، ناهيك عن تباعد الرؤى بين الطرفين فيما يخص التسوية السورية، ولذا فإن «التنازل» الروسي كما سماه البعض، هو إعلامي ولا تأثير يذكر له في الوقائع، والآليات التي وضعت ستكون متعثرة حتى قبيل انطلاقها.
معركة الجنوب باتت حتمية ما لم تسع الميليشيات المسلحة إلى ما يمكن أن يؤدي إلى حقن الدماء وربما كان هناك توجه لدى الأميركيين لسحب تلك الفصائل من الجنوب لكن ليس لحقن الدماء بالتأكيد وإنما لشيء آخر.
في الغضون يمكن اعتبار التصريح الذي جاء على لسان الرئيس بشار الأسد في مقابلته مع قناة «روسيا اليوم» التي بثته يوم الأربعاء الماضي إيذاناً مبكراً بالقفزة التالية التي سيقوم بها الجيش السوري ما بعد معركته التي توجه إليها في الجنوب، فقد جاء على لسان الرئيس الأسد قوله: «سنلجأ إلى تحرير مناطق سيطرة «قوات سورية الديموقراطية» المدعومة أميركياً بالقوة سواء بوجود الأميركيين أم من دون وجودهم»، والمؤكد هو أن الأكراد كانوا قد أخطؤوا القراءة في السابق، والراجح هو أنهم سيخطئونها في اللاحق، وما من شك أنهم يراهنون على تلك التصريحات التي تطلقها قيادات أميركية بين الفينة والأخرى، وآخرها كان ما جاء على لسان الجنرال في هيئة الأركان كينيث ماكنزي يوم الجمعة الماضي بأن على أي طرف منخرط في سورية أن يفهم أن مهاجمة القوات المسلحة الأميركية أو شركائنا في التحالف ستكون سياسة سيئة للغاية، والرهان هنا عدا عن أنه قراءة خاطئة لها تكاليفها فإنه يودي نحو أثمان باهظة ومضاعفة، فواشنطن لن تخوض حرباً لأجلهم وخصوصاً أنها ترى أن حقائق التاريخ وكذا الجغرافيا ليستا في مصلحتها، ثم أن المناخات كلها ضدها حتى في جهتها التركية وإذا ما كان الأكراد قد استكانوا عند قناعة تقول إن الأميركيين قد اختبروا في السابق ونتيجة الاختبار كانت هي أنهم فضلوا الأكراد على الأتراك، فإن تلك الاستكانة كارثية وفي السياسة لا يمكن لك أن تعبر النهر مرتين لأن النهر في المرة الثانية سيكون قد تغير عنه في المرة الأولى، ومن المؤكد أن كل هذا الشد الأميركي سيتغير جذرياً لحظة انطلاق الطلقة الأولى في الحرب المقبلة في الشرق.
إن نظرة متأنية للكيان الذي أطلق عليه اسم «روج آفا» تشير إلى مشروع ولد ميتاً ولا تجيزه حقائق التاريخ ولا حقائق الجغرافيا، فهذي الأخيرة تقول إن الانتشار الكردي يقع في شريط حدودي متقطع مع تركيا وهناك بين أقاليمه الثلاثة الكبرى فواصل ديموغرافية كافية لاستصدار حكم بإعدامه، أما التاريخ فيقول وربما سيكون في هذا القول حقائق صادمة: إن الوجود الكردي في الشرق السوري يشكل ما نسبته 25 -30 بالمئة من عدد السكان الإجمالي وهذا ليس ما تقوله الإحصائيات السورية الرسمية، وإنما جاء عبر دراسة وضعها 107 باحثين أكثر من نصفهم من الأكراد، وهي احتاجت إلى جهد استمر من أيلول 2011 حتى حزيران 2012، أما الحقيقة الثانية فتقول إن الوجود الكردي في سورية كان أصلاً قد تشكل كحالة «إغاثية» في أعقاب فشل ثورة الشيخ سعيد بيران في الجنوب التركي ضد الكماليين في العام 1925، ويكفي هنا لتبيان تلك الحالة أن نستند إلى وثيقة فرنسية من أرشيف إدارة المخابرات الفرنسية تحمل الرقم 204 تاريخ 18 تشرين الأول 1926، وهي تقول بالحرف: «بغية التأثير بالأكراد اللاجئين في الأراضي السورية لا يكتفي الأتراك بأن يرسلوا إلى هؤلاء الرسائل والمبعوثين وتقديم الوعود لهم، إنهم، أي الأتراك، ينشرون في كل مكان خبراً يقول إن الفرنسيين مجبرون بموجب الاتفاقية الأخيرة بتوقيف كل الأفراد المطلوبين من تركيا وتسليمهم إياها»، وبقي أن نقول إن من قام بترجمة هذه الوثيقة الأخيرة هو الباحث الكردي خالد عيسى الذي شغل منصب مسؤول العلاقات الخارجية لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني وهي في أرشيفه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن