الصعب والمستحيل
| د. نبيل طعمة
كيف بنا نستمرُّ ونحن نرى هذا العالم عالمنا يتمزق؟ من يعمل على ذلك؟ أتعتقدون أن هذا صحيح؟ مؤكد.. لأن الذي نتعايش معهم قسراً من خلال الفوضى المنثورة التي يسعون لتعميمها بين الشعوب والأمم يدفعون للسير نحوها بتسارع قلّ نظيره، حيث لم يعد للحق من وسيلة إلا واستخدمها، بغاية منع تحركاتهم أو إيقافها.
السياسة فقدت سواد ساستها، معلنة الحرب على من يجيدها، وغدت عراكاً بدائياً لا يمتلك أي مقوّم، تلفت إليه بعد أن وصلت إلى الفكاك من القيود الأخلاقية، ما أدى إلى انحلالات ذهبت بالمجموع إلى الفوضى والخيانة والتعدي اللاشرعي، فالسياسة لا تعرف العواطف، والنصر حالة غريزية رغم امتلاكه للمنظومات العلمية والخطط وتصحيح الخطأ أثناء المسير لتحقيقه، ولكن مع من، وعلى من؟ على العدو الداخلي الخارجي، والتحدي مع الذات ضمن التنافس الشريف أو السلبي، فالإنسان يحب النصر، والحب والكراهية حالتان تتراوحان بين العاطفة والغريزية، كيف بنا نبعد ذلك أو نتقبله؟
إن أي مجتمع معرضٌ دائماً إلى أخطار عندما يتحول إلى التحجّر، بعدما يكون قد أسرف في النظام والتباهي بالعادات والتقاليد من دون فاعلية، كما أنه معرض أيضاً للانهيار والتحلل والخضوع للغزو الداخلي أو الخارجي، من المحيط القريب أو البعيد، بسبب نمو النزعات الفردية واستغلال الأفراد لبعضهم وتقوقعهم على ذاتهم، بحيث يغدو التعاون مستحيلاً.
هل يستطيع عصر الرخاء الحفاظ على حضوره نتيجة تمسكه بالجوانب الأخلاقية والمفيد من العادات والتقاليد النوعية التي تبهر الآخر، والتي بها تتم السيطرة على الشر والحروب والإرهاب الذي يحاول دائماً الكشف عن نفسه، وإذا حدث ونجح، فيعني هذا انتهاء عصر الرخاء والذهاب إلى الفوضى التي يتحكم بها طواف الشر، إلى أن يلتقي بالخير من جديد، حيث نجدهما يعملان معاً على صياغة نظم معقدة كثيراً ما تكون غير منطقية، إنما تظهر مساحة من السكينة، يتم أثناءها التقاط الأنفاس ومعالجة نتائج الفوضى التي تتجلى في أعداء الحرية، حيث لا يرضيهم ظهور الحقيقة، وأن ينعم العالم بها، وجُلَّ الشرّ يريد إبقاء الإنسانية تحت الضغط، يتمتع بالأنين الناتج عن العذاب والفقر، فهل يمكن أن يجتمع الإنسان بجزأيه المدني والهمجي، لينتصرا معاً لفكرة سداد الرأي التي تدعوهما للسير إلى الأمام بحثاً وإصراراً على ما اكتشفاه من خراب ضمن حركة معقدة الجوانب؛ أي إنها تفسح للمستحيل بالتحول إلى الممكن وتيسّر الصعب.
الصعب لا يعني المستحيل، فهل يحتاج العالم لإحداث هذا الصراع بين هذين المفهومين، والغاية الدائمة الوصول إلى نشوة الانتصار التي لا يقف الإنسان عندها، من باب أن وجودها قام على الجشع الذي اعتاده، وإن حدث وتوقف، فإنها تكون استراحة المحارب الباحث عن استمرار الدماء، لا منع سيلها، وهو بذلك يدفع ثمن وجوده من دون وعي، وإرادته عدم الوصول إليه، لذلك نجد أن ظهور أي اضطراب سياسي وعدم القدرة على تقديم حلول ناجعة يؤدي إلى عراك مكشوف يخلُّ بالنظام العام، ويخلخل السلطة، ويقسمها إلى ديني وعقائدي حزبي، ويمين ويسار ومنتظرين وفاعلين، وإن أهم إصلاح يخصُّ مجتمعاتنا العربية، يكمن في الإصلاح الفكري، لأن التراكم الماضوي وصل في درجة رفضه حتى تجديد بعض الأفكار، وعقدة أي إصلاح لم تعد في الدين، بقدر ما هي موجودة في العقل العربي، وكلما تدهور الواقع العربي، نجد تدهوراً خطِراً في بناء الإنسان، الذي وصل بعضه لدى الآخرين إلى أعلى مراتب العلم والسياسة والاجتماع، والاثنان متحدان فيما يحمله الجوهر.
لم تدرك عوالمنا العربية أن أي نصر ينبغي أن يتحقق عبر القانون الذي يدير البشر، ويحافظ على المسافات فيما بينهم، وهذا لا يتوافر في سياساتنا، لأن القانون الغيبي أقوى، وهو مسكون في لغة الفرد العربي، وحينما نلقي نظرات على واقع مجتمعات عالم الجنوب، نجد الافتقار إلى التماسك الاجتماعي والحرية الفردية، شأنهما في ذلك شأن الدين والعلم المتنازعين أبداً على من يسود الآخر، بينما في عالم الشمال نرى العلاقة متسايرة، متساوية، لأنها وصلت إلى توءمة الريف مع المدينة، ضمن مدنية الدولة التي توحد الجميع واقعاً لا خيالاً، فالولاء للمدنية يؤدي للولاء للدولة، بينما الصراع على المدنية يُبقي الحرية مجتزأة أو منقوصة، حيث تؤدي إلى نقص في النظم الأخلاقية؛ أي مطالبة الكثرة بالالتزام بها، بينما الندرة تعيث فساداً بشكل أو بآخر.
هل ما يحدث يتخطّى الفهم الإنساني والمعرفة التي سبقت كل فهم وإدراكها للوجود وأسبابه، من باب أن القوة تستبيح حدود الآخر، وهل الدولة الضعيفة تأكل قواها، لتحول مجموع أبنائها إلى ضعفاء، حيث يتجهون إلى الأديان على الرغم من نهشهم لبعضهم، وغايتهم تأمين فرديتهم.
العالم يتمزق واقعاً لا خيالاً، ما معنى وجود العقائد والأديان والطوائف والمذاهب؟ أليس الكل يتمترس خلف ما يعتقد ويؤمن، يبني قواه لينشأ الألم، وعالم بلا ألم يفتقد الإحساس بطعم الحياة؟ عالمٌ الكلّ يسعى فيه للفوز الساحق بالمقاومة الثقافية أو العنيفة، أو الكفاح الدامي، في النتيجة على من ينتصر، وأمام من ينهزم؟
امتلأ العالم بالخطايا بعد أن تناسى جميع الوصايا القادمة من مثلث القداسة وفلسفة النقاء وتأملات العلماء، عالم ممتلئ بالدموع والدماء والخداع والمكر، اختلط كل ما فيه ليلد الأنا والقوة اللتين تنشران الفقر والضعف والتبعية، نعم لقد غدا العالم بلا إنسانية، الأدب والسياسة خضعا لسلطة المال، وأصبح الجميع تاجراً بلا أخلاق، الكل يعلم أننا في مركب واحد آيل إلى الغرق، فهل نسرع في إنقاذه؟
الصعب يكمن في قدرتنا على امتلاك وعي روحي جديد، بعد انكشاف جميع المشاريع الدينية التي تحولت كما أسلفت إلى تجارة، ربحت كل شيء، وخسرت الإنسان، والمستحيل غير موجود، لأنه لحظة أن تفكر به، وتمتلك أدوات أفكاره، يتحول إلى ممكن، وهنا أشير إلى استعادة المعرفة الأولى، حيث علينا أن نسرّع أداءنا إلى أقصى مدى، فينتفي من أمامنا الواقع المعيش، ونغدو معها مباشرة على الطريق السليم، وبهذا نقدر الانتقال إلى المستقبل بلا هزائم، ومن دون انكسارات، ننتصر على أنفسنا، نخلص من الفوضى بكل أشكالها، خلّاقة أو هدّامة، وأياً كان شكلها، فسوف تسعى إلى الخراب، حتى وإن كانت تحمل غاية التجديد أو الإعمار.
إن أغلى ما تملكه الحياة هو الإنسان، فلنبدأ بإصلاح فكره، معتقداته التي شابها الكثير من الخلل والغبار والندم، وبهذه الإصابات لا يمكنه أن يتقدم، فلا صعب ولا مستحيل إلا في عقول فقراء العقل والإيمان بهذه الحياة، الذين يساوون الذاكرة بالنسيان، يفضلون شريعة الغاب على الشريعة المنظمة والعدالة الإلهية.
قهر الشعوب واستغلالها لا يعني استسلامها للمستحيل ولا للصعاب التي تأخذ بيدها إلى الحكمة، والتي تحول المستحيل إلى ممكن، وتعني في الوقت ذاته أن نحيا وفقاً للمبادئ والقيم الأخلاقية، هذه المبادئ التي تعيد تشكيل الضوابط الشخصية والاجتماعية ضمن منطق الموضوعية والواقعية، فالقيم هي التي تتحكم بالسلوك ونوعية المنتج، والضمير الإنساني هو المكان الذي يبني هذه القيم والمبادئ، ويتمسك بها خيراً أو شراً، والشوق للنجاح وحده يدعونا إلى تحمُّل الصعاب ونفي المستحيل.