ثقافة وفن

المثقف والمنابر والموت المدمّر … إذا عجز مجتمعنا عن مواجهة فكر وضعه في صدام مع السلطة! .. مثقفو السلطة حاربوا المثقفين الحقيقيين ففتحوا المجال للتطرف

| إسماعيل مروة

لابد من وجود بيئة مناسبة للمثقف ليعطي ثمار ثقافته وفكره، ويقدم عصارة جهده وخبراته وقراءاته. وإن تميز المثقف عن غيره في شيء، فإنما يتميز بقراءته المتنوعة المتعددة، وبمشاربه الفكرية التي لا تحد بجانب، وعندها يصبح قادراً على الفعل، ويغدو خارج التصنيفات المعهودة، فالثقافة تمنح المثقف الحق، الفاتح ذهنه وعقله، القدرة على استيعاب كل شيء، وأهم ما في الأمر أن المثقف يصبح منارة تبتعد عن صفات التقديس والضمنية، فهو لا يقدس أحداً، ولا يريد لأحد أن يقدسه، ولا ينساق وراء انتماء ديني أو طائفي أو قبلي أو مناطقي، لأن مدى الثقافة المفتوح على المدى، لا ينحاز إلى شخص لأنه ينتمي إليه بدين أو مذهب أو طائفة أو منطقة، ولا يعادي أحداً للأسباب ذاتها.
ولا يمكن أن يكون المنبر الذي نتحدث عنه مقتصراً على جانب من جوانب الحياة والمجتمع، فالثقافة عملية معقدة ومتشابكة، وقد رأينا سابقاً أن التكوين الثقافي يقع أثيراً للمجتمع والسلطة السياسية والسلطة الدينية، والمنبر هو الطريقة التي تسهم فيها السلطة الدينية على تشكيل الوعي والتكوين الثقافي، واستطاعت المؤسة الدينية أن تخضع الناس لرأيها لأن الدين فكر لا يخضع للنقاش، وهو من مسلمات إلى مسلمات، وهنا تكمن الخطورة، فكثير لا يدركون المسافة الفاصلة بين الفكر الديني وممثليه الذين يستمدون تكريسهم وتطويبهم من المنطلقات الدينية ولكن وفق مصالح الأشخاص دون امتلاك الرؤى التنويري.
من هنا تأتي خطورة غياب المنبر الثقافي لصالح المنبر الديني خاصة عندما يكون شخصياً وفي هذه الوقفة نقدم قراءة لواقع المنابر الثقافية وانحسارها لصالح المنبر الديني مما أدى إلى تراجع ثقافي لصالح تعميم ثقافة قد تكون غير ضرورية إلا في نخبة من المتخصصين.
المثقف والانفتاح

ليس المقصود هنا أن يكون المثقف منفتحاً أي لا يملك هوية، بل المطلوب أن يكون المثقف وطنياً في انتمائه، فلا ينتمي إلى جهة خارجية مهما كانت مرتبة هذه الجهة، فلا يجوز أن نجد المثقف منتمياً إلى جهة تنتمي إليه دينياً، كأن يكون مرتبطاً بمكة أو الفاتيكان، فكلاهما هو من جانب هويته الانتمائية الفكرية، ولكنه من دون الانتماء الوطني، ولا يجوز أن يكون المثقف مرتبطاً بجهة أيديولوجية يسارية أو يمينية تتمركز في الخارج، فهذه الجهة الأيديولوجية أعطته الاتجاه الفكري وحسب، والمثقف الوطني هو من يكيف هذه الاتجاهات من قومية وماركسية وغيرها مع واقعه الوطني، ليكون في خدمة وطنه، يعطيه ويفني ذاته من أجله كما أعطاه وطنه، وربما كان الوطن زاهداً بابنه هذا، لكن هذا الزهد لا يعطيه المسوغ ليعمل ضده.. وفي الوقت نفسه علينا أن نعمم ثقافة الانفتاح، فلا نطلب من مثقف أن يكون منفتحاً، ونحن نمارس عليه كل أنواع التضييق في التعبير، ويتحول المجتمع إلى مجتمع مغلق، كل ما يقوم به هو شتم المثقف والوقوف ضده وضدّ آرائه.. وهذا الانفتاح الثقافي هو الذي خلق عالماً ثقافياً جميلاً ذات يوم، فأحمد عبد المعطي حجازي أخذ دوره ومكانته، والوسط الثقافي يخالفه توجهاته القومية القريبة من البعث، وكان إلى جانب أمل دنقل وهو اليساري، ولم يأخذ أحدهما من الآخر، بل كانا يدعمان واحدهما الآخر، لأنهما رافدان ثقافيان تنويريان، ومعهما وقبلهما كان صلاح عبد الصبور وإحسان عبد القدوس وروز اليوسف ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وسواهم من الأعلام، فلم يمنع إحسان عبد القدوس مانع من الرواية البسيطة التي تتناول قضايا قد لا يراها كثيرون بهذه الأهمية مثل (في بيتنا رجل- أنا حرة- أنف وثلاث عيون) وكانت هذه الأعمال البيضاء في تركيبتها تمشي جنباً إلى جنب مع (السكرية- قصر الشوق) وذلك لأن المجتمع كان يسعى إلى النخبة المثقفة، فهذا طه حسين صاحب أسلوب عربي مشرق يدعو إلى التدبر وإلى العناية بالثقافة المصرية، وهذا مصطفى صادق الرافعي، صاحب أسلوب عالٍ، ويدعو إلى ثقافة عربية تراثية قرآنية، وهذا عباس محمود العقاد، صاحب أسلوب وعر وصعب، يعود إلى التراث ويكتب عبقرياته، وينهل من النظريات الغربية والنفسية ليحلل بعمق قلّ مثيله، وهذا إبراهيم المازني يكتب نثراً وشعراً، يسخر ويفتح صندوق الدنيا، ويكتب في حصاد الهشيم مقالة ونقداً غاية في العلو.. المجتمع هو الحاضنة الثقافية التي تدفع المثقف إلى أن يكون خاصاً، وعندما نتغنى نحن- السوريين- بما حصل في البرلمان مع نزار قباني وشعره، فيجب أن ننتقل من التغني والممارسة يومها إلى الاقتداء ومحاولة الارتفاع خطوات في دفع الحرية الثقافية خطوات، فكما فعل اليمين واليسار مع نزار قباني يومها علينا أن نفعل وأن نزيد في المستوى، فلم تراجع الأمر إلى هذه الدرجة على المستوى العربي؟

خيبة ونكوص
بعد تلك المرحلة الثقافية التي لا يختلف فيها اثنان، وإن كان كل واحد يحاول أن يترجمها ويدرسها من وجهة نظره، تراجع المشهد الثقافي والفكري إلى مستويات غير مقبولة اليوم، وهي التي تبني بما وصلنا إليه، بل تخبر عن الكوارث التي تنتظرنا، فلم يعد العلماني يجلس على طاولة واحدة مع المتدين والقومي! ولم يعد أحدهما يقبل الآخر بفرح، ويحزن لحزنه وإن خالفه! وبعد أن كانت هذه الخلافات تصنع معارك ثقافية تغني المجتمع المثقف والمثقف عامة، والأمثلة كثيرة من مدرسة الديوان إلى سلامة موسى وطه حسين والمعارك الثقافية المهمة التي أثرت الحياة الثقافية، وزادتها كتباً وانفتاحاً، تحول الأمر إلى مكائد ودسائس وشتائم! فبدل أن يخرج أحدهم علينا بنقد- ولو كان متجنياً- كما في الديوان ليثري شعر شوقي، ويبرز محاسنه مع العيوب، صرنا نجد الدسائس والتجاهل، وهما ناجمان عن الجهل في التعاطي الثقافي، هذا الجهل الذي وصل مرحلة عليا من التدني!!
بدلاً من دراسة ألفة الإدلبي ننعتها بالسطحية، وبدل دراسة العجيلي ننعته بالبورجوازية، وبدل دراسة نزار قباني ننعته بشتى الأوصاف، وبدل قراءة بدوي الجبل نبحث عن مواقف سياسية طارئة، وبدل دراسة الزركلي نناقش مرحلة زمنية دفعناه إليها دفعاً، وهكذا يطول النقاش ويزداد أوار الحرب العبثية، واليوم نجد بفضل الإعلام أن الدراسة تقوم على غير التوافق الفكري، فأنا أفهم أن يقوم الشيوعيون في مراحل بحملة إعلامية لرفع شأن أديب شيوعي، أو أن يقوم القوميون بفعل ذلك، أو أن يفعله المتدينون، والشواهد كثيرة على هذه النماذج، وبعض هذه النماذج أثبتت صحتها وأهليتها، وصارت علامة إبداعية مهمة لا يمكن غضّ النظر عنها أو تجاهلها، وعدد من هؤلاء لم تفلح كل الدعايات والحملات في أن يحافظ على مكانته التي ليست له أصلاً فعاد القهقرى، وربما دخل في مجاهل النسيان، وفي أنحاء الوطن العربي أسماء بعضها لا يزال على قيد الحياة، قدم منجزاً ضخماً، لكنه لا يلتفت إليه!! بل لقد اجتمع عدد من الأجراء للكتابة له، وما إن تسمعه أو تجالسه حتى تكتشف الفارق الكبير، وتدرك أن هذه العجينة ليست من تلك الطينة!

دخول السلطة على الثقافة
أستحضر مباشرة أعمال المبدع الدكتور يوسف إدريس الذي كان والد القصة القصيرة العربية، وأنتج مسرحاً مهماً صار علامات، لم يكن إدريس ناقماً ولا معارضاً، ولكنه كان مواطناً وناقداً، فأصدر مجموعته (بيت من لحم) والتي يصور فيها الطبقة المسحوقة وعلاقتها بالجسد والجنس، والبطل الأساسي فيها شيخ قارئ أعمى، فلم تقم الدنيا ولم تقعد، ولم تحاسبه المؤسسة الأزهرية، وفي الوقت نفسه لم تضع السلطة السياسية نفسها في مواجهة نيابة عن الشخصيات الدينية، وكانت هذه القصة خالدة في تحليل النفس والحدث. وحين أراد انتقاد المجتمع والسلطة والفساد كتب مسرحيته (الفرافير) التي أحدثت لغطاً هائلاً، ولكن المسرحية كتبت وشخصت، وثار حولها جدل فني وفكري، ولم تكن السلطة يومها في مواجهة رأيه وفكره، والغريب الذي أريد أن أصل إليه أن مثقفي السلطة هم من حاول إيذاء إدريس ونصه المبدع، كما حاولوا ذلك مع نزار قباني، وكما حاولوا ذلك مع نجيب محفوظ في عدد من أعماله، منها الكرنك وثرثرة فوق النيل.. وامتد الأمر ليصل إلى السينما ويفسر مثقفو السلطة أن عبارة (زواج عتريس من فؤادة باطل) على أنها نَيْل من عبد الناصر، فعتريس برأيهم عبد الناصر وفؤادة مصر!! ولم يحل أمر الفيلم إلا تدخل عبد الناصر والسماح بعرض الفيلم بنفسه!.
وشيئاً فشيئاً، وبدل أن تحدث معارك نقدية وإبداعية وثقافية تغني المجتمع، وتدفع إلى إصدار دوريات متناقضة ومتكاملة، وتدفع إلى خضّات ثقافية عميقة تؤدي نتائج إيجابية على المدى الطويل، بدل ذلك انكفأ المثقفون، أو هاجروا، أو هجّروا، واستقطبوا، واكتفت السلطات العربية بشخصيات موظفة مدعية مريضة لا حسّ لديها بثقافة أو إبداع.. ليصبح محمد شكري و(الخبز الحافي) مبدعاً غريباً، ولكنه منبوذ ومرفوض في مصر، وليصبح أدونيس مفكراً عالمياً بين الشرق والغرب، بين كوريا وباريس، وانظروا إلى التناقض، بينما في بلده الذي يحبه ويتوق إليه، ينظر إليه على أنه معارض من جهة، وتنظر إليه جهة أخرى على أنه ابن السلطة والانتماء! وهذا يعني أن الفكر المجتمعي الذي أسست له السلطات العربية يرفض أي اختلاف ويجد له المسوغات الضدية التي تسهم في إلغاء الاختلافات التي تثري الثقافة، وتسعى إلى ثقافة أحادية ترضي السلطة والمجتمع معاً، وأي ثقافة أخرى مرفوضة ومطرودة.. وقد تم التأسيس لذلك من خلال نخب ثقافية سلطوية لا تقرأ غير ذاتها، ولا ترى إلا ما تراه هي والسلطة، وساعد على ذلك نخبة من أصحاب القرار الذين جاءت بهم المصادفة، وتناغم الجهل مع الجهل، وارتضى الجهلان ما يساعد على استمرارها بشكل كبير.

الملاذ الوحيد
بما أن الساحة الثقافية صارت أقرب إلى الفقر بعد غنى بعيد المدى، فقد بدأ البحث عن المنابر، والمنابر هنا الإعلام، والإعلام ليس مقصوراً على الشاشة والإذاعة والصحافة، ولننتبه إلى قضية مهمة، فقد كان في فترات الازدهار الثقافي لهذه المنابر التأثير الأكبر في الثقافة والذوق والفن، والجيل القديم يذكر كيف كان الناس في المجال الفني ينتظرون معرض دمشق الدولي وأيام مسرحه، ابتداء من فيروز وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وهاني شاكر وصولاً إلى القمم السورية من صباح فخري إلى ميادة الحناوي وشادي جميل وغيرهم، وقد كانت هذه مناسبة لالتقاء الإنسان بالفن الجميل، حتى غدا مسرح المعرض منبراً فنياً لا يجارى، ليس عند المواطن فقط، بل حتى عند الفنانين، ونذكر أن الرحابنة كانوا يعدون مسرحياتهم في بعض الأحيان لاحتفاليات مسرح المعرض، وحفلة عبد الحليم حافظ الأخيرة كانت في مسرح المعرض، ومن أجل هذه الحفلة قام بتجديد وتوزيع عدد من أغنياته (أهواك- أول مرة- في يوم في شهر) فأين هذا المنبر اليوم لتنمية الذائقة الفنية.
وكانت المراكز الثقافية منابر يقصدها المثقفون، ولكن أين هذه المراكز اليوم؟! وليس صحيحاً القول بأن المواطن هو الذي عزف عن المراكز، والمواطن عندما يقدم له شيء له قيمة فإنه سيأتي حتماً، ولكن عندما يكون مستوى الموجودين في المراكز كمحاضرين دون المستوى اللائق والمطلوب فإن الجمهور سينفضّ، وكلنا يعرف الشواهد التي أسهمت في إبعاد الناس عن المراكز الثقافية، فالأسباب لا تعود إلى فقر معرفي لدى الجمهور، ولا تعود إلى وسائل التقانة والمعلومات كما يقولون، ولكنها تعود إلى أننا سلبنا هذه المراكز خصوصيتها وفضيلتها، وحولناها إلى مرتع لمحاضرين ملهم الناس، ليس للتكرار الشخصي وحسب، بل ملهم لأنهم يحملون قصيدة أو دراسة أو قصة منذ أربعين عاماً ويدورون بها على المراكز الثقافية ليقولوا كلاماً معاداً مكروراً، ولأن الجمهور أكثر وعياً وإدراكاً ومعرفة فإنه انفضّ عن هذه الأنشطة، وتحولت المراكز الثقافية التي نفاخر بعددها وتميزها إلى مناطق مهجورة، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، ومع الزمن لم توضع خطة إستراتيجية لتفعيل هذه المراكز وإعادة المنبرية لها كما كانت، منبرية للعلم والثقافة والأدب والنشاط الاجتماعي، ولا أريد أن أذكر أسماء محاضرين حضروا إلى مكان فكان المركز فارغاً فشربوا كأس شاي، وحملوا مظروفاً داكن اللون فيه المكافأة الهزيلة التي تقدم للمحاضر القادم، يأخذها شاكراً ويمضي، تطفأ الأضواء، ويعود المركز إلى السكون باستثناء بعض حالات الاستقطاب التي تعتمد الحزبية أو المناطقية أو الطائفية، حيث يحضر الجمهور لرمزية المكان أو شخص المحاضر!! وللتدليل على ذلك فقد شهدت وقبل سنوات من الأزمة، وفي منطقة التل قرب دمشق محاضرات كثيرة في مركزها الثقافي، قبل تحديث المركز، وبعد إنجاز المركز الثقافي الجديد، فإذا بالجمهور القليل الذي يحضر، إلا إذا كان المحاضر من منطقة التل فإنه يأتي عدد من الحضور على استحياء منه، ومرة حضرت واحداً من الجمهور فكان العدد مخجلاً، ووجدت في الطرقات لوحات قماشية تعلن عن محاضرة للداعية الإسلامي عمرو كافي بعد يومين، وعندما عقدت المحاضرة لم تتسع لها ساحات مدينة التل، حيث جاء جمهور مذهل! ويومها لم يتم التعامل مع الموضوع بجدية من المعنيين، ولم يطرح أحدهم سؤالاً واحداً عن السبب، بل لقد حضر هذه المحاضرة مسؤولو المنطقة كافة، وهم لا يكلفون خاطرهم عادة بزيارة المركز الثقافي!
وكان المفترض أن تطرح أسئلة كثيرة، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث!
وتفتق ذهن بعض المشرفين على المراكز الثقافية عن اجتهادات فردية كان من الممكن أن تؤدي نتيجة لو كانت مدروسة، إذ صارت هذه المراكز تتناول موضوعات صحية وغذائية توعوية، ولكن كل ذلك كان فردياً، ولأن عمرو كافي وغيره لا يحضر دوماً، فقد ذهب إليهم الجمهور، ولكن إلى أين؟
المنبر الأهم والأخطر عندما يجرب أحدنا أن يرتاد المنبر الأهم فإنه سيكتشف ما نحن فيه، انفض الجمهور عن الفعاليات الثقافية ليس لأنه لا يريدها، بل لأنها لا تقدم جديداً، وذهب إلى أخطر منبر وهو منبر الجامع والكنيسة، هو يذهب إلى هذا المنبر ومن حقه عقيدياً واجتماعياً، ومن يتابع، فإنه ما من جامع يستوعب المصلين، وأحياناً يضطر الخطيب لتقريب المسافات ليصلي بعضهم على ظهور المتقدمين، وينبه الخطيب إلى جواز هذا الأمر، وكذلك فإن الحشد الذي يحضر إلى قاعة أي كنيسة أكبر عشرات المرات من الذي يزور الأنشطة الثقافية والمراكز..!
وهنا كان من الواجب على الجهات المعنية الحكومية والثقافية والدينية أن تنتبه إلى الواقع الذي يمكن استثماره، فأكبر محاضرة هي المحاضرة الدينية، الخطبة أو العظة، والشخص الذي لا يراجعه أحد فيما يقول هو خطيب المنبر الديني، حتى ذلك الذي لا يقتنع، والنسبة كبيرة، يسمع ويمشي، لكنه لا يتخلف عن الحضور!
ومقابل كل مركز ثقافي في أصغر حي أو قرية هناك ثلاثة مساجد على الأقل يحضر أكثر من ثلاثة آلاف شخص هذه الخطبة، وحتى في دمشق فإنه يقابل كل مركز ثقافي ما لا يقل عن عشرة مساجد، المراكز الثقافية خاوية! والمساجد مكتظة، وإن كانت الدولة غير راغبة في إغضاب الشريحة العامة، وهي على حق، أو كانت ترى الحرية الدينية، وهي على حق، فإنه من الواجب عليها أن تستثمر هذه الاجتماعات وطنياً.
لا يمكن أن أدفع الناس عن تأدية واجب مقدس يرونه، بل علي أن أحترم ذلك، ولكن أن أستثمره وطنياً، ولا يكون الاستثمار بتوحيد خطبة مكتوبة، ولا بتوجيهات ورقية تصل قبل الخطبة، ولا بتوزيع كتب، ولا بأي وسيلة من الوسائل التقليدية المتبعة، فقد أثبتت رد الفعل السلبي، لكن من الواجب على وزارة الأوقاف أن تعمل على إعداد الخطباء وتدريبهم وتعليمهم التعليم الراقي والعلمي، ليحترموا عقولهم أولاً، وليحترموا جمهورهم ثانياً، وأنا من خلال متابعتي فإنني لم أترك منبراً في دمشق لم أسمع منه، وقليلة هي المنابر التي تعطيك زبدة الكلام المفيد، والخطباء أنواع، إما من المشاهير الذين يتحدثون بلا تحضير ولا رابط فيطيلون ويزيدون، ولا يقدمون إلا المزيد من الإتباع. أو من المقلدين لأشياخهم الذين توسطوا لدى الأوقاف لتعيينهم، وهم يعملون على التقليد صوتاً وحديثاً، أو من الخطباء الصغار في السن، وقد ازداد عدد المنابر، ولم تعد فكرة المسجد الجامع موجودة، أي أن تقام خطبة واحدة من المنطقة، وصار لكل مسجد خطيبه، وهنا تمت الاستعانة بعدد كبير من الذين ما يزالون طلبة في طور التعلم والتلقي، وعلينا أن نتخيل وفق هذا التصنيف كم المنامات والحكايات، فهذا تاه في البحر لأسابيع لكن بالدعاء قطع على خشبة صغيرة من مركب غارق في المحيط الهادي أو الأطلسي ونجا!! وإن استغربت قال لك الشيخ: أليس اللـه بقادر؟! تجيب: بلى قادر وتمشي!!
هذه المنابر هي التي أخذت مكان المثقف، وصار المثقف والكاتب والأستاذ والمتنور مهجوراً، وتربع واحد من طلابه المنبر وصار هو المؤثر، وسيجد المثقف المتنور نفسه مدفوعاً لحضور خطب هذا التلميذ الذي لم يحصل على الإعدادية فقصد الشرعية، وقد نجده يخاطبه سيدي، وقد يدعوه العرف الاجتماعي إلى تقبيل عمامته ويده!!

الإعلام والتنوير
الحديث عن الإعلام لا يكفيه مكان صغير، لكنه قد يكون فاتحة لأحاديث لاحقة، فصحافتنا وإذاعتنا وتلفزيوننا كان يتعامل مع الشأن الفكري باحترام واعتدال، فنشم رائحة رمضان من صابر وصبرية ومحمد جومر وسعيد عبد اللـه وأبو رشدي وغوار يخترق الجدار، ويكتفي بتحية الإفطار من مروان شيخو رحمه اللـه، وكان جو رمضان أكثر هيبة وجمالاً وخشوعاً، أما إعلامنا اليوم فتحول في المقروء إلى إمساكية، وفي المسموع إلى ما يشبه، وفي المرئي إلى برامج تتوالى من أحاديث لا حديث وتفاسير وما شابه من فتاوى، ولأن المساحة كبيرة فقد دخلها دخلاء صاروا دكاترة من دون أن يحصلوا على الإجازة، ويستعملوا اللقب من دون رادع أو أن يمنعهم أحد ولا بد من وجود قانون يمنع الأشخاص من استعمال لقب الدكترة من دون دراسة، فما بالنا عندما نقول: الشيخ الدكتور؟! وربما حمل ألقاباً أخرى!
وفي سورية أنشئت قناة (نور الشام) لغايات تنويرية تثقيفية، وما لبثت أن تحولت وتغيرت وصارت ملكية لعدد من الأشخاص الذين يتحركون عليها بالطول والعرض، وتحولت هذه القناة إلى قناة مملة لا طعم لها، وكلما سألت أحدهم: لماذا؟ فيقول: هكذا تريد الأوقاف! وفلان مزبط أموره مع الأوقاف! فهل تملك الأوقاف مشايخ أو إعلاميين؟!
ألا يوجد بين الإعلاميين من يؤدي الغرض التنويري بالتزام وجدية؟!
قد لا يعجب أحدهم هذا الحديث، ولكنني أقوله مخلصاً وليس لغاية، وأقوله حباً وحرصاً، غداً تتغير الوجوه، ونجد كل المداهنين يمسحون الأشرطة لاستقبال وافد جديد!
فلنعمل لأنفسنا باحترامها والاستفادة، حتى المادية، ولترك الأثر، ولنضع في حسباننا أن سورية باقية، وزروعنا تدل علينا، والنقد حب لا كره فيه، وسمي النقد نقداً لشبهه بعمل الصيرفي الذي يميز النقود، والكره أيها السادة لا يقدم نقداً بل يقدم شتماً، فلنتحاور لنصنع منبراً ثقافياً واجتماعياً وحضارياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن