إرهاصات انخفاض رتبة
| عبد المنعم علي عيسى
لم تأت استقالة رئيس الوزراء الأردني هاني الملقي يوم الاثنين الماضي بالغايات المرجوة منها، ولذا فقد ألحقت بخروج نائبه ممدوح العبادي بعد ساعات منها، ليعلن أن الأردن يتعرض لضغوط هائلة فيما يخص «صفقة القرن»، لكن «الأكشن» الذي استخدمه في هذا الشأن لم يكن موفقاً بحكم أنه مكرور، أو أن الأردن تحديداً من الصعب عليه استخدامه فقد جاء على لسان هذا الأخير أن «كل بوصلة لا تشير إلى القدس هي بوصله خائنة» وكأني بذاكرة نائب رئيس الوزراء مثقوبة أو أنها أجبرت على أن تكون كذلك، فأين كانت تلك البوصلة عندما جهد الملك حسين الراحل يوم 25 أيلول من العام 1973 للقاء رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير لتحذيرها من أن الجيش السوري هو الآن في حالة تأهب وهذا الخبر ليس تجنيا أو يحتمل التشكيك، فقد ذكره رئيس شعبة الاستخبارات اهارون ليبران في لقائه المنشور مع صحيفة «إسرائيل اليوم» في 10 أيلول من عام 2013، والأخير إذ كان حاضراً ذلك اللقاء فقد أكد أن انخراط الأردن في الحرب كان بالتنسيق مع تل أبيب حيث أدخلت عمان اللواء 40 بعد ستة أيام على اندلاع الحرب، أما اللواء 60 فهو لم يدخل إلا بعد انتهاء المعارك.
ما هدف إليه خروج العبادي وما قاله، هو محاولة لإبقاء الاحتجاجات عند سقفها الاقتصادي فلا ترتفع إلى سقوف يمكن أن تطاول عبرها السياسة والعرش، فالاحتجاجات التي انطلقت يوم الأربعاء قبل الماضي جاءت كما قيل رداً على قراري الحكومة برفع أسعار المحروقات وقرار الضريبة على الدخل، وإذا ما كان الملك قد أصدر مرسوماً في اليوم التالي للاحتجاج يقضي بتجميد القرار الأول، فإن رئيس الحكومة رفض إلغاء القرار الثاني فأقيل في اليوم التالي للقائه بالملك، والمؤكد أن الرجل يدرك جيداً حجم الأزمة التي يمر بها الأردن وهي معرضة للتفاقم بعد جفاف المنابع الأميركية والسعودية والقطرية لأكثر من عام مضى، في الوقت الذي شدد فيه صندوق النقد الدولي المطالبة بديونه ولم يكن أمام الملقي إلا اتخاذ تلك الإجراءات لسداد الدين.
الصورة الأشمل تقول أكثر من ذلك، فالمال هو جزء من الاقتصاد وليس العكس، وتداخل الدورين السياسي بالاقتصادي بدرجة قصوى كان قد لعب الدور الحاسم في وصول الأردن إلى ما وصل إليه، والنهج الذي اتبعته عمان منذ بدء الأزمة السورية كان أساساً من النوع التراكمي الذي لا بد أن تتبين انعكاساته عندما يصل الاحتقان إلى حدوده المطلوبة، فسياسة خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء، كان من المقدر لها أن تأتي بالكثير من المكاسب، ليتبين خطأ تلك الحسابات والأمر نفسه حصل مع ملف اللاجئين السوريين الذين استغلت الحكومات الأردنية مأساتهم لـ«تعتاش» منها ولكي تمارس شتى أنواع الابتزاز، شأنها في ذلك شأن ما فعلته أنقرة مع الأوربيين مع وجود أفضلية لهذي الأخيرة ناجمة عن قدرتها على تسيير قوارب الموت التي كانت تهدد بها العديد من الدول، وفي نصف اللوحة الآخر يقول نقيب المحامين ليث شبيلات في لقائه مع جريدة «الأخبار» والمنشور يوم الثلاثاء الماضي، إن الأزمة بشكل ما هي إرهاصات يعيشها الأردن نتيجة لتخفيض رتبته الإسرائيلية من عميد إلى ملازم، في الوقت الذي رقيت رتبة السعودية فيه إلى رتبة جنرال، أما فيما يخص الضغوط التي تتعرض لها البلاد فهو يخالف فيها رأي العبادي ويضيف أنها ناجمة أصلاً عن مسعى لدى الرئيس الأميركي ترامب لإحياء غرفة عمليات «الموك» وهو هذي المرة «يريد أن يقاتل برجالنا».
في كلتا الحالتين يمكن القول: إن الأردن فعلا هو أمام مفترق طرق، كما أعلن الملك في لقائه الإعلامي يوم الاثنين الماضي، وربما سيكون يوم الثلاثاء الذي شهد مواجهات دامية مدخلا للولوج نحو المجهول، والمؤكد أن الأردن يمر بحالة تحول جذرية في طبيعة الدور الوظيفي الذي لطالما اضطلع به على مدى العقود السبعة الماضية، فبعدما كان يلعب دور جسر عبور نحو الخليج العربي لم يعد مهماً وجود ذلك الجسر بعد أن جاء الخليج مهرولا كله باتجاه نقطة الوصول الإسرائيلية وبمعنى آخر، دخل الأردن مرحلة التهميش شأنه في ذلك شأن مصر التي كان يصفها الإسرائيليون بالجائزة الكبرى في ثمانينيات القرن الماضي، لكنها اليوم تعيش على هامش الأحداث، وباختصار يمكن القول إن الأردن كان كالسنبلة قبل العام 1999 وهو يتقن فن التمايل أمام النسائم والرياح، وما بعد العام 1999 ظل يمارس ذلك الدور لكن مع فارق مهم هو أن الأرض التي تحمل تلك السنبلة باتت من الهشاشة بما لا يسمح لها بالتمايل، كما أصبحت النسائم أشبه بالأعاصير.